المتابع للتغطية الإعلامية الغربية، وخاصة الأمريكية منها، للانتفاضة الأخيرة في فلسطين يلاحظ بوضوح ميل هذه التغطية للصالح الإسرائيلي والتركيز غير المحدود على قتل الجنود الإسرائيليين مع تجاهل الكثير من المآسي التي تحصل للفلسطينيين هناك إلا بعض المقالات والتقارير الإخبارية المنصفة والمتعاطفة مع العرب والتي تظهر هنا وهناك على استحياء وتظهر في الغالب في وسائل الإعلام الكبرى التي لا يمكن توجيهها بسهولة من قبل اللوبي الصهيوني في أمريكا.
لماذا تنال قضايانا مثل هذه التغطية الرديئة رغم أننا في الحقيقة مسالمون ونتعامل مع الغربيين بالكثير من الود في معظم مجالات حياتنا، ربما أكثر من الإسرائيليين بمراحل حسب ما يبدو من وسائل الإعلام الإسرائيلية، ورغم أننا مظلومون بشكل واضح كوضوح الشمس؟
الجواب الجاهز لدينا هو بالطبع سيطرة اليهود على الإعلام الأمريكي كسيطرة الأخطبوط الذي يلف بكل رجل من أرجله على أحد مفاصل الحياة الغربية، والذي يأتي بالطبع من ميلنا الثقافي غير المحدود للإيمان بأننا ضحايا مؤامرة تدور من حولنا تمد خيوطها تحت الأرض ولا نرى منها إلا اليد التي تصفعنا.
في رأيي الشخصي أن هذا الجواب الجاهز مخالف للحقيقة تماما.
لكن حتى أوضح ما أريد قوله تماما فأنا أؤكد أن اليهود في أمريكا لهم الكثير من التأثير على الإعلام هناك، لكن هذا التأثير لم يأت لأن “كل الصحف يهودية”، أو لأن “كل رؤساء التحرير ماسونيون”، أو لأن اليهود يفجرون سيارة كل من يخالفهم.
الجالية اليهودية في أمريكا لا يزيد عدد أفرادها عن ستة ملايين شخص، والأشخاص الفاعلون منهم العاملون لصالح قضيتهم لا يزيدون في الحقيقة عن مليون شخص على أحسن الأحوال، بعد حذف “العلمانيين والفسقة واللامبالين بمصير قضيتهم والشباب والفتيات الذين انغمسوا في ملاهي الثقافة الأمريكية”، حسب تعبير رئيسة تحرير مجلة “آيباك”، الناطقة بلسان اللوبي اليهودي في أمريكا في حوار صحفي لي معها.
كيف يمكن لهؤلاء المليون أن يقبضوا على أيدي الممسكين بالأقلام في أكثر من عشرين ألف وسيلة إعلامية تصدر في أمريكا ويجبروهم على كتابة ما يريدون رغم الحرية المطلقة الموجودة في أمريكا، ورغم القانون الذي يحمي الصحفيين هناك بشكل لا يوجد في أي دولة أخرى في العالم، باستثناء سويسرا الرائدة في هذا المجال؟
فيما يلي محاولة سريعة لتفسير الظاهرة حسب استقرائي المكثف لها أكاديميا وصحفيا:
- ثقافة المجتمع الغربي عموما تتميز بحرصها على التجاوب مع الرأي العام، ينطبق ذلك على المؤسسات السياسية والإعلامية ومؤسسات صناعة القرار وحتى الشركات.
إذن إذا استطعت صناعة رأي عام لصالحك فإن الجميع سيحابيك ويتجاوب معك.
اليهود في الغرب لا يملكون الرأي العام لصالحهم، هذه قضية مكلفة جدا على كل حال، ولكنهم يملكون المفاتيح الشكلية التي تجعل المؤسسات هناك تشعر وكأن الرأي العام يمضي مع اليهود.
اليهود يتقنون إنشاء مراكز الدراسات والأبحاث الضخمة التي تصدر الدراسة تلو الأخرى بتكاليف تصل لملايين الدولارات.
هم يتقنون التعامل مع الكونجرس الأمريكي من خلال الندوات التي تقام الواحدة تلو الأخرى في مختلف أرجاء الكونجرس والتي يدعى لها أعضاء الكونجرس.
في عام 1998 دعيت للندوة السنوية التي يقيمها المجلس الإسلامي الأمريكي في الكونغرس وهي الندوة الوحيدة للمسلمين الأمريكيين تقام كل سنة في الكونغرس والذي يملك غرفا مجانية تمنح لكل من يريد إقامة ندوة ما للتأثير على قرارات الكونجرس، ولما استطلعت جدول الغرف الأخرى وجدت أن المنظمات اليهودية تحتل معظم الغرف الأخرى وعلى مدار الأسبوع، تأمل ذلك مع العلم أن عدد المسلمين في أمريكا يفوق عدد اليهود هناك.
اليهود لا يكتفون بهذه الندوات بل إنهم أيضا ماهرون بشكل مثير للإعجاب في تنظيم الجمعيات السياسية التي تقف مع مرشحي الانتخابات السياسية في أمريكا على اختلاف درجاتهم، وستفاجأ لو عرفت أن نسبة تزيد عن 50% من المتطوعين الذين عملوا في الانتخابات الرئاسية الماضية مع كل من جورج بوش، وآل جور، هم من الشباب والشابات اليهود، وهؤلاء المتطوعون هم الذين يحملون اللافتات ويتلقون اتصالات المنتخبين ويوزعون البيانات الصحفية ويمرون على البيوت لدعوة الناس للمشاركة في انتخاب المرشح، ووجود مونيكا لوينسكي اليهودية، في البيت الأبيض كمتدربة لم يكن مصادفة، فالشباب اليهود مرغوبين على المستوى السياسي لأنهم جادون وماهرون في إقناع الناس خطابيا وسياسيا.
اليهود يتقنون أيضا إيصال رسالتهم للإعلام فهم يتقنون كتابة البيانات الصحفية ورسائل القراء الموجهة والتعامل مع الصحفيين وتنظيم المؤتمرات الصحفية.
وهم في ذلك وفي تنظيم اتصالات اليهود ومناصريهم بالكونجرس الأمريكي لدعم قضية ما يعتمدون أسلوبا منظما يقوم على أساس تكوين قاعدة من معلومات الاتصال بالبريد الألكتروني والهاتف والفاكس والبريد العادي، ويتم مطالبة هؤلاء المسجلين في قاعدة المعلومات بالاتصال بالكونجرس أو وسائل الإعلام لمطالبتهم بأخذ موقف معين، مما يوحي لمتلقي الاتصالات أن الرأي العام يسير مع القضية بشكل معين.
قارن هذه الجهود بجهود الجالية الإسلامية في أمريكا والتي بدأت تنشط في الفترة الأخيرة فقط وبدأ هذا النشاط بالتحديد بشكل قوي بعد انفجار أكلاهوما في سنة 1995، والذي أصاب مسلمي أمريكا بصدمة هائلة لما رأوا آثار إهمالهم لتوصيل رسالتهم للمجتمع الأمريكي.
المسلمون معظمهم من المهاجرين الذين لا يفهمون ثقافة المجتمع الأمريكي، والمشغولون بالالتحاق بالحياة المادية التي حرموا منها في بلادهم، والمشغولون كذلك بخلافاتهم على امتداد الخطوط العرقية والمذهبية والوطنية والثقافية إلى العظم.
حتى تصدق أن هذا هو السبب تأمل ما حققه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية “كاير”، لصالح الجالية الإسلامية في أمريكا من إنجازات مذهلة خلال فترة بسيطة من النشاط وعلى يد خمسة موظفين فقط، وفكر ماذا كان سيحدث لو كان لدينا ألف مؤسسة “عدد المؤسسات اليهودية” ويعمل فيها ما معدله ثلاثين شخصا، من المؤكد لي بلا تردد أن المسلمين سيقفون على قدم متوازية مع الجالية اليهودية في أمريكا.
- الحضارة الرأسمالية جعلت من أمريكا وأوروبا مدنيات مؤسسة في كل تفاصيلها على أساس المال، بحيث أصبح من السهولة بمكان القول بأنه بقدر ما تملك من المال بقدر ما يمكنك تحقيق النفوذ.
في معظم الانتخابات الأمريكية، حسب ما تثبته الدراسات العلمية، يمكنك التأكد من الفوز بنسبة 87% إذا كنت تملك رصيدا للحملة الانتخابية أكثر من منافسك.
وماذا عن الخطابة والقدرات الإقناعية ورأي الإعلام فيك وإقناع الناس بشخصيتك؟
الجواب كل هذا يمكن أن يشترى بالمال، وذلك ببساطة لأنه يمكنك أن تعين مكتبا استشاريا مميزا “وتزيد التكلفة بزيادة التميز” يدير لك حملتك الانتخابية بالكامل بما يحقق لك الفوز، من المعروف أن جيمس كارفيل، وهو المستشار الذي أدار الحملات الانتخابية لكلينتون، منذ أن كان شابا ويحقق له الفوز باستمرار، وكارفيل، لم يفشل في أي حملة انتخابية انتهاء بالحملة الانتخابية للإسرائيلي باراك، ضد نتنياهو، والتي أدارها كارفيل.
من يملك المال في أمريكا؟
هنا المفصل الحساس الذي يجيب على كل التساؤلات: اليهود يملكونه بفضل ترابطهم الشديد وعملهم الدؤوب في كل المجالات التي تأتي بالكثير من المال وهم يسخرون هذا المال للتأثير على النشاط السياسي في أمريكا بمختلف الأوجه.
- ثقافة الشعب اليهودي لا تقوم فقط على الإيمان بالمال كهدف حياة، بل هي تقوم أيضا على ميزتين آخرتين:
- الأولى: حب المجالات ذات العلاقة بالتعبير ومنها الإعلام والفن والخطابة والسياسة.
اليهود يتقنون الكلام ويحبون الإبداع ويشجعون أبناءهم عليه ويضحون من أجل ذلك بالكثير.
قد يقال بأن دفع الشباب اليهودي لدراسة الإعلام هو خطة سياسية محكمة وهذا قد يكون صحيحا ولكن النتيجة هي أن خيرة شباب وشابات اليهود يملؤون كراسي كليات الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية واستديوهات هوليوود بينما الشباب العرب يملوؤن كراسي كليات الهندسة والطب والصيدلة والمحاسبة ربما، أي كل ما ليس له علاقة بالفكر والتأثير. - الثانية: الشعب اليهودي يحب الإتقان في العمل، ويخلص لما يريد، وهم بذلك يأتون بعد الألمان أكثر الشعوب إتقانا لأعمالها.
والإتقان يعني التفوق في المجال الذي يتخصص فيه الإنسان وقد تفاجأ إذا رأيت أن الطلاب اليهود هم الأكثر تفوقا في مختلف التخصصات في الجامعات الأمريكية ووجود عدد هائل من المخترعين والفلاسفة والمفكرين اليهود في القرن العشرين مرتبط بحبهم للإتقان الذي يبرزهم رغم قلة عددهم.
فلسفة الإتقان جاءت من حب اليهود للمال وجاءت من الاضطهاد الذي عانوه لفترة طويلة جدا من التاريخ الأوروبي والذي جعل التميز وسيلتهم الوحيدة لتحقيق القبول لهم في أوساط المجتمعات الأوروبية وما زالت ثقافة الإتقان جزءا من التفكير اليهودي، لك الحق أن تمارس فعل المقارن المؤلم بيننا وبينهم.
في حملة الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، كانت للصورة دورها الفعال، وبقي محمد الدرة، شاهدا على الاضطهاد الإسرائيلي الذي لم تنفع معه كل جهود اللوبي اليهودي في أمريكا لتبريره، لكن محمد الدرة، سرعان ما سينساه الإعلام الغربي، لأنه ليس هناك مؤسسات عربية تقوم به كما قام اليهود بصور ضحايا الهولوكست، بينما سيتذكر الغرب طويلا الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا والذين اختطفوا لأن اليهود لن يتوقفوا عن الحديث عنهم.
لو تركت باب بيتك مفتوحا وسرقت فسيلومك الناس ولن تستطيع الاحتجاج بنظرية المؤامرة والإخطبوط، وبيوتنا مفتوحة على مصراعيها بلا أبواب، ولكننا لأننا جميعا مذنبون فلا أحد يلوم سوى اللص المسكينـ….
* نُشر في مجلة المعرفة السعودية