تعاني الرواية بشكلها التقليدي من تدهور في مبيعاتها في المكتبات الغربية عموما، وفي أمريكا وكندا بشكل خاص، وذلك بالمقارنة بالإقبال الشعبي الواسع عليها خلال الثمانينات الميلادية وأوائل التسعينات.
لكن هذا التدهور يأتي لصالح «السير الذاتية» التي بالمقابل تزداد مبيعاتها باضطراد سريع لتحتل دائما مقدمة قوائم أكثر الكتب مبيعا في أمريكا.
عدد من النقاد والأكاديميين الأمريكيين حاولوا تفسير هذه الظاهرة، ليجدوا أن من أهم الأسباب تزايد الإحساس بين الناس في أمريكا بأن كتابة الرواية لا تمثل إنجازا عظيما، وأنها مجرد موهبة من يملكها يستطيع أن يسخر خياله ليخرج بما شاء على الورق.
بعض النقاد يرفضون هذا التفسير مع إقرارهم بأن نسبة لا بأس بها من الناس لديهم هذه الفكرة، ولكنهم يعيدون تدهور الرواية لكون وظيفتها انحصرت في إشباع رغبة الخيال لدى الإنسان والتي صارت الأفلام السينمائية وشاشة التلفزيون تحقق هذا الإشباع على مدار ساعات اليوم بجهد أقل بكثير يبذله المتفرج مقارنة بقارئ الرواية.
بالمقابل تأتي السير الذاتية لتعبر عن أحداث حقيقية وليست خيالية، لتتميز بذلك عن الرواية وعن الفيلم السينمائي ولتجذب جمهورا واسعا باحثا عن تجربة الآخرين في رحلة الحياة والتي يتعاظم الإيمان بتعقيدها وكثرة الأسئلة المحيرة فيها وتراكم الصعوبات التي تقف في وجه الإنسان وأحلامه الكثيرة.
هذا الجمهور أىضا يبحث عن الحكمة وأجوبة الأسئلة الذاتية التي لا يجدها في العمل المبني على الخيال، وخاصة مع التدهور الرهيب لعلاقة الناس في الغرب بالدين كمصدر للحكمة والتوجيه في حياة الإنسان اليومية.
في التفاصيل الدقيقة للسير الذاتية والاطلاع من أعلى على ما حدث خلال فترة معينة من الزمن، يجد القارئ صدى لأحداثه اليومية وتوثيق تاريخي ورأي للآخرين حول تفاصيل حياته، بالإضافة للمتعة الأدبية إذا كانت هذه السيرة الذاتية كتبت بقلم فنان.
في استفتاء شارك فيه العديد من النقاد المهتمين بالسير الذاتية، نجد أن تجربة المشاركين في الحروب هي أكثر التجارب شيوعا وجاذبية في السير الذاتية بأمريكا، وأن الرسائل الشخصية هي أهم مصدر للمعلومات في السير الذاتية، وأن أجمل السير الذاتية من الناحية الأدبية المنشورة بالإنجليزية كتبت في أوروبا وأستراليا وليس في أمريكا.
يعتمد النقاد في تقويم السير الذاتية على ثلاثة عناصر هامة:
- قدرة الكاتب على نقل معالم التجربة للقارئ كتابة.
- عدم وجود أي تناقضات في تفسير الكاتب لتجربته.
- وأخيرا، ثراء ودقة وجمال الكلمات التي يختارها الكاتب في كتابته.
ويشير العديد من هؤلاء أن السير الذاتية للعبيد، والنساء منهم بالذات، الذين كابدوا شقاء العبودية ونالوا حريتهم بعد ذلك في أمريكا خلال القرن الماضي، هي أكثر السير الذاتية جاذبية في أمريكا يليها بعد ذلك السير الذاتية الرومانسية.
حبيبي وستي خضراء..
لا يوجد الكثير من السير الذاتية التي كتبها أمريكيون من أصل عربي في السوق الأمريكية، لكن واحدة من هذه السير الذاتية تعتبر استثناء من خلال مبيعاتها الواسعة التي نقلتها لقوائم أفضل السير الذاتية مبيعا في أمريكا.
«حبيبي»، هي سيرة ذاتية كتبتها بالإنجليزية للأطفال نعومي شهاب ني، شاعرة أمريكية من أصل فلسطيني، ونشرتها في شهر أكتوبر الماضي دار نشر سيمون آند شستر، والتي تعتبر أكبر دار نشر في العالم للكتب الإنجليزية.
نعومي، تعكس في «حبيبي»، وهذا هو عنوانها بالنطق العربي، قصة رحيلها من أمريكا في طفولتها حيث كان والدها يعمل، إلى فلسطين، حيث عاشت هناك لفترة تعلمت فيها العربية وامتلكت خلالها تجربة ثرية ظهرت في كل دواوينها الشعرية ورواياتها، والتي عبرت بشكل أو بآخر عن معايشتها للمعاناة الفلسطينية وتفاصيل الحياة اليومية في قريتها سنجل بالضفة الغربية.
لكن «حبيبي» ليست سيرة ذاتية بالضبط، لأن نعومي، أضافت عليها من خيالها الكثير وغيرت فيها بعناية حتى أنها كتبتها ست مرات، مما جعلها رواية مميزة نالت الكثير من مدح النقاد.
مجلة «الناشرون الأسبوعية» الشهيرة، قدمت عرضا مميزا للرواية، ومجلة «الكتب الأمريكية الأكثر مبيعا»، قدمتها على انها اختيار المجلة المفضل في أحد أعدادها، ومجلة «قائمة الكتب»، قالت بأن هذه الرواية تكسر الجمود لتقدم إطارا جديدا لروايات الأطفال.
الشاعر الأمريكي الشهير، فيليب بوث، قال بأن الروائية «بكل المعاني الإنسانية الممكنة واعية وعلى اتصال بالفقر المادي والروح الإنسانية والتي يعبر عنها أدبها بشكل عظيم».
في العام الماضي، نشرت “نعومي” مختارات من الشعر والفن العربي المعاصر سمتها «المسافة بين خطواتنا» ونشرتها دار سيمون آند شستر أيضا، وديوان شعر بعنوان «وقود»، بالإضافة لتقديمها لديوان شعر للشاعر الأمريكي، ويليام ستافورد.
لكن «المسافة بين خطواتنا» مكتوب للقراء الشباب، وهي تقول بأنه الأول من نوعه الذي يتيح للقارئ الصغير الأمريكي الاطلاع على الشعر العربي، حيث لا يوجد في مكتبات المدارس في أمريكا أي كتب مماثلة ما عدا ديوانها «هذه السماء نفسها» والذي يوجد على أرفف معظم المكتبات الأمريكية المخصصة للمراهقين والصغار.
«أحب الطعام البسيط والخشب الطبيعي والقماش المخيط باليد والبيوت المسكونة من قبل»، هذا ماتقوله نعومي عن نفسها واصفة حياتها في سان أنطونيو بولاية تكساس الأمريكية، مع زوجها المصور وابنها ذو السنوات العشر.
والد نعومي، عزيز شهاب، كان قد جاء لأمريكا لما كان عمره 18 عاما، وتزوج من فنانة ألمانية لينجبا نعومي، والتي رحلت معهم إلى فلسطين في عام 1966 وعمرها 14 عاما.
أجمل ذكريات نعومي، عن تلك المرحلة، تدور حول جدتها «ستي خضراء» والتي كونت علاقة خاصة مع حفيدتها خلال 28 عاما بعد ذلك وحتى توفيت.
هذه العلاقة تبدو أكثر من عادية، لأن ستي خضراء، تركت أثرا عميقا في كتابات نعومي، والتي تتحدث عنها في كل مكان يمكنها ذلك مشيرة للغة خاصة كانت تدور بينهما، والتي بدأت لما مرضت نعومي، عند وصولها لفلسطين وجاءت جدتها لتدعو الله عند فراشها بالشفاء حتى شفيت فعلا.
هذه الجدة تتصدر بحجابها الأبيض التقليدي الجميل غلاف ديوان نعومي، «كلمات تحت الكلمات»، وفي الديوان عدة قصائد في منتهى الشفافية عن الجدة.
ثم عكست “نعومي” الكثير مما تعلمته من جدتها في ديوان آخر للأطفال بعنوان «أسرار ستي»، مستعملة كلمة ستي بنطقها العربي في كل أرجاء الديوان، لتدخل “نعومي” هذه اللفظة بذلك إلى القاموس الشعري الأمريكي.
لنعومي عدة دواوين أخرى مثل «الشنطة الحمراء»، ومختارات شعرية مثل «الشجرة أقدم منك»، وكتب نثرية مثل «أبدا لم أكن في عجلة: فصول حول الناس والأماكن»، وكتب للأطفال مثل «حبيبي»، و«أسرار جدتي».
هذه الكتب نالت العديد من أرقى الجوائز الأدبية الأمريكية لتدخل نعومي بشعرها وذاكرتها العربية في النسيج الأدبي الأمريكي الرفيع.
وللقصة القصيرة مجدها..
بعد ثلاثة عقود من اضمحلال فن القصة القصيرة في أمريكا وبعد أن توقع النقاد أن القصة القصيرة ماتت إلى الأبد، انقلبت المعادلة فجأة هذا العام حين ظهرت أكثر من عشر مجموعات قصص قصيرة استطاعت أن تحقق مبيعات عالية جدا تجاوزت ظنون النقاد ومسؤولي دور النشر الأدبية.
الغريب أن كل هذه المجموعات بلا استثناء كتبتها روائيات من النساء، وهي في معظم الأحيان تتناول تجربة المرأة الغربية بكل تعقيدات هذه التجربة وتنوعاتها.
لماذا حققت القصص القصيرة هذه العودة المفاجئة؟
أحد الدراسات الأدبية الحديثة تقول أن هذه المجموعات كلها استطاعت أن تعيد بلورة نفسها من جديد لتتخلص من تقاليد القصص القصيرة القديمة ولتحول نفسها إلى نوافذ صغيرة على الحياة ترى منها جزءا من المشهد اليومي الذي نعايشه بأفراحه وآلامه من خلال زاوية معينة تحمل في طياتها العبرة وأبعاد المعنى المختلفة.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية