قليلون هم الذين لم يستمتعوا بمشاهدة جولات من المصارعة الحرة والاستماع لصوت المعلق سليمان الراشد، يخبر جماهيره بمعلومات عن ذلك المصارع أو ذاك ويتفاعل مع كل حركة بنبراته الصوتية الساحرة كما يتفاعل آلاف الناس في بيوتهم مع تلك الحركات بالقفز والصراخ والضحك ونداءات التشجيع.
الحقيقة أن جولات المصارعة الحرة من هذا النوع انقرضت تماما ولم يعد لها وجودK وجاء مكانها على شاشات التلفزيون الأمريكي نوع آخر من المصارعة الحرة المعد بطريقة يصعب لأي قناة تلفزيونية عربية محترمة بثها لما فيها من مشاهد مخالفة للعادات والتقاليد.
النسخة الجديدة من المصارعة الحرة، التي بدأها الأمريكيون في أوائل هذا القرن وانتهت إلى حد كبير بشكلها الأصلي على أيديهم أيضا في مطلع التسعينات الميلادية، فيها شئ من الصراع والعنف والضرب، ولكنها مؤطرة في تمثيلية متعددة الحلقات كما هي بالضبط التمثيليات المكسيكية التي تأتي بها بعض المحطات الفضائية.
تماما كما في التمثيليات، المصارعة الحرة حاليا لها سيناريو معين يكتبه فريق من أشهر كتاب السيناريوهات في هوليوود، ويتدرب عليه المصارعون وشركائهم في السيناريو عدة مرات قبل العرض، كما يتدرب المصورون ومسؤولي المؤثرات الخاصة على تفاصيله.
عند افتتاح المسرحية، يأتي الجمهور وقد عرفوا ما حدث في الحلقات السابقة من صراعات بين نجوم المصارعة، والذين لا يزيد عددهم عن عشرين مصارعا على رأسهم هولك هوجان، وستيف أوستين، وينظرون للحلقة الجديدة لا على أنها مصارعة بل على أنها مسرحية ممتعة تقع على الحلبة.
المشاهدون يعرفون أن ليس هناك أي شئ يحدث على الحلبة حقيقي، ولكنهم يصرخون ويشجعون تفاعلا مع حركات المسرحية.
وإذا كنت تظن أن السيناريو يحتوي على حركات المصارعة فقط التي تعودنا على مشاهدتها على شاشة التلفزيون السعودي فأنت مخطئ تماما.
سيناريو التسعينات يحتوي على الكثير من الفتيات في مطلع العشرينات التي عملت فيهن مشارط الجراحة البلاستيكية لتزيد فيهن نسبة الإغراء الجنسي بكل شكل ممكن.
هؤلاء الفتيات يتنافس عليهم المصارعون، وعندما يتمكن ستيف أوستين، من جذب إحداهن، فإنها قد تتركه أمام الجماهير _ ضمن المسرحية _ في الحلقة التالية لتصبح صديقة مان كيند، بعد أن أحست أن أوستين، ليس رجلا بما يكفي للدفاع عن شرفه أمام ضربات مان كيند.
وعادة يدخل كل بطل من أبطال المصارعة الحرة وحوله ثلاث أو أربع فتيات يسمين فتيات المصارعة الحرة من محباته اللاتي يمارسن التدلل عليه أمام الجمهور ومطالبته بـ«سحق رأس ومسح وجه» خصمه.
هؤلاء الفتيات يشاركن أيضا في فعاليات المصارعة على الحلبة، حين تأتي أحدهن بأنوثة مصطنعة إلى طرف الحلبة لتشد شعر المصارع الخصم والذي يصرخ من شدة الألم ويستسلم للهزيمة بعد شد شعره أو ضرب رأسه بعصا _ مطاطية غالبا لكنها تشبه العصا الخشبية _ من قبل فتاة المصارعة الحرة، ويقوم البطل ليشكر صديقته أمام الجماهير على معروفها الكبير والذي أنقذه من براثن خصمه.
في الحلقة التالية، يدخل البطل نفسه وهو يبكي ويرجو صديقته نفسها أن تعود إليه بعد أن تركته لمصارع آخر خلال موقف ما.
ولا تستغرب إذا أخذتك كاميرات التلفزيون لغرفة أحد المصارعين في فندق ما وهو يتناول العشاء مع صديقته على السرير ويدخل أحد المصارعين الذي يدخل في حوار من الاحتقار والسخرية وربما ضرب صاحب الغرفة بكرسي في الغرفة، فتحس الصديقة أن صاحبها ضعيف وتتركه لتغادر مع المصارع الآخر.
مصارعة كلامية..
قبل كل جولة، لابد أن تحصل جولة من المصارعة الكلامية بين النجوم يسب فيها كل منهما الآخر بأقذع المسبات ويتبادلون التحديات في مهارة فائقة في صياغة التعبيرات تعرف مسبقا أنها صيغت على أيد ي كتاب محترفين وتم التدرب عليها عدة مرات قبل إتقانها بهذا الشكل.
وخلال الجولة يظهر الدخان والأضواء وربما يتم تناول المخدرات _ وهي غير حقيقية على ما يفترض _ والكحوليات والصراخ الجنوني وممارسة كل الممنوعات!!
أيضا تستعمل في هذه التمثليات أشياء كثيرة يضرب بها المصارع خصمه، وتقول دراسة علمية قامت بها جامعة أمريكية، أنه خلال 50 حلقة من المصارعة الحرة حصلت 609 حالات من ضرب أحد المصارعين للآخر بشئ ما مثل سلات المهملات الحديدية، أو عصا لعبة البيسبول “ليست الأصلية بالطبع”، أو آلات موسيقية، أو كراسي، أو حتى ما يبدو مثل سكاكين، أو شفرات حلاقة، أو أشياء حادة يسيل بسببها دم صناعي على صدر المصارع أو جبتهته.
وإذا كانت هناك آلاف الأساليب التي تأتي بالذهب من وراء استعمال جسد المرأة، فإن المصارعة الحرة هي أسلوب لصناعة الذهب من وراء جسد الرجل.
التركيز على الجسد جعل أجسام المصارعين محلا لأفكار كتاب السيناريو أيضا، والذي أدى في النهاية لوجود عدد من أشكال الوشم الغريبة على جسد المصارع والتي تصاغ حولها القصة، كما أدى لوضع الحلقات حول أذن المصارع وأنفه ولسانه ومختلف أجزاء جسده الأخرى!!
فقط الأشخاص ذوي الطول الفارع والأجسام الضخمة هم الذين يرحب بهم على حلبات المصارعة الحرة والذين تنتقى لهم بعد ذلك طريقة لباسهم وقصات شعورهم والمكياج الذي يوضع على وجوههم أثناء المصارعة.
لماذا كل هذا ولماذا لا تترك كل هذه القصص للممثلين المحترفين وللأفلام السينمائية الهوليودية؟
ببساطة لأن قياصرة المصارعة الحرة في أمريكا، والذين يملكون حلبات المصارعة وعقود معظم المصارعين وعلى رأسهم فينس ماك ماهون، مالك فدرالية المصارعة العالمية، رأوا في هذا التحويل للمصارعة الحرة إلى عمل سينمائي متكامل أرباحا متزايدة تتجاوز مئات الملايين من الدولارات سنويا جعلتهم يرمون بالنسخة التقليدية القديمة من المصارعة الحرة في أحد سلات المهملات وإلى الأبد.
قبل ثلاثة أشهر، أعلنت فدرالية المصارعة العالمية تحويل جزء منها إلى شركة مساهمة، وعرضت أسهما في الأسواق بقيمة أولية بلغت 172 مليون دولار، وسرعان ما ارتفعت أسعار هذه الأسهم لتصل قيمتها حاليا بما يقدر بنصف مليار دولار.
هذه الأرباح الضخمة لم تكن لتتحقق _ حسب رأي مدير الفدرالية _ بدون تحويل المصارعة الحرة لشكلها الترفيهي الجديد، والذي يشاهده كل مساء إثنين حوالي عشرة ملايين مشاهد، وهذا بالطبع يجذب المعلنين الذين يدفعون الملايين للوصول لهذه الجماهير.
أقصى درجات العنف!
واحد من الأسباب التي أدت لانتهاء المصارعة الحرة بشكلها القديم هو كثرة الدعاوي القضائية التي رفعها مصارعون ضد بعضهم في المحاكم الأمريكية، مطالبين فيها بتعويضات تقدر بملايين الدولارات بسبب إصابة تعرضوا لها على يد المصارع الآخر في الحلبة.
المصارعة الحرة بشكلها الجديد تتفادى مثل هذه المشكلة لأن الحركات كلها تمثيلية، وإن كان العديد من هذه الحركات تتضمن القفز من على الحبال ورمي المصارع من أعلى على الحلبة.
بل إن المصارعين حاليا يجربون حركات ما يسمى بـ«المصارعة بالغة العنف»، وهي حركات جديدة وخطيرة يرسمها كتاب هوليوود على الورق ليطبقها المصارعون على الحلبة ويساعد على إيجادها “مقارنة بالسابق” هو تمكن المصارعين فيما بينهما على الاتفاق على الحركة بخطواتها.
بعض هذه الحركات ذهب ضحيتها المصارع رغم التدرب السابق عليها كما حدث لـ«دروز»، والذي أصيب بالشلل في نصفه السفلي، بعد أن رماه المصارع براون، من أعلى لأسفل، و بلو بليزر، والذي مات قبل أشهر عندما سقط من الكابل الحديدي الذي كان يحمله على ارتفاع ستة أمتار ويفترض أن ينزله في الحلبة بشكل مفاجئ للمصارع الآخر الذي يتجه بأنظاره نحو البوابة منتظرا خروج خصمه.
إنها تماما كما في السيرك، حيث يتدرب اللاعبون على الحركات مئات المرات ولكن احتمال الخطأ يبقى قائما والنتيجة خطيرة بالطبع.
في كثير من الحالات يقوم المصارع بصب البنزين على خصمه وإشعال جسده بالنار والذي يقيم الجماهير ويقعدها، والسر هو عادة مسح جسد المصارع الخصم بمادة عازلة تمنع من تأثير النار عليه، ولكن كثيرا ما يحصل أن المادة تكون أقل مما يلزم في أحد مناطق الجسم فيصاب المصارع بحروق نتيجة ذلك.
خلط الطعام بالمصارعة
كما هي العادة في أمريكا، حين يجذب شئ ما الجماهير تبدأ الأرباح المادية تتراكم في بلد لا يتوقف عن استخدام كل وسيلة لسحب المزيد من الأموال.
في مجال المصارعة الحرة، بدأ عدد من المراهقين استغلال شعبية المصارعة الحرة بشكلها الجديد لإقامة حلبات مصارعة في الحارات تحتوي على التمثيل نفسه ويحضره أبناء الحي مقابل مبلغ رمزي معين.
أحد هذه الحلبات جذبت الأضواء حين وقعت عقدا مع شركة توزيع، لتوزيع أفلام هذه الجولات على محلات الفيديو، والتي بدأت تحقق أرباحا سريعة بحكم أن المراهقين ضحوا بالقفز من على سطح المنزل أو بجرح جبهة الآخر ” بعد الاتفاق معه طبعا” بغطاء علبة جبن حتى ينزل الدم.
أحد الشركات فتحت مطعما ضخما يتسع لـ350 شخص في مدينة لاس فيجاس، والذي يحمل شكل حلبة مصارعة حرة ويلبس العاملون فيه ألبسة أبطال وفتيات المصارعة الحرة، كما يقوم البعض بالمصارعة على حلبة أخرى في الوسط لتسلية الجماهير أثناء تناول وجبة الطعام.
مطعم آخر مشابه سيفتتح قريبا في مدينة نيويورك وعدة مدن أمريكية أخرى.
المصارعة الحرة بشكلها الجديد صنعت العديد من المشاهير أيضا وكان منهم «ذا بدي» جيسي فينتورا، والذي ترك المصارعة الحرة ودخل الحلبة السياسية ليفوز بانتخابات ولاية منسوتا الأمريكية، وأصبح حاكما لها في حدث هز الأوساط السياسية والإعلامية في أمريكا وشغلها لعدة أشهر.
فينتورا، ربما كان الشخص الوحيد الذي حمل الرصيد الذي منحته إياه تمثيليات المصارعة الحرة إلى الحلبات السياسية ليفوز بالانتخابات، ولم ينس فينتورا، الفضل لفدرالية المصارعة العالمية، مما جعله يعود إلى حلبة المصارعة الحرة مطلع هذا العام أثناء عمله كحاكم للولاية، الأمر الذي أغضب الكثير من سكانها.
هولك هوجان، من جهته استفاد من شهرته في دخول عالم هوليود ليصبح ممثلا في عدد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.
في كل هذه الأفلام يلعب هوجان، دور البطل القوي ذي القلب الطيب الذي يسعى لإنقاذ الضعفاء ومحاربة الأشرار.
لكن بكل أسف في فلمين من هذه الأفلام، كان الأشرار هم العرب الذين قاتلهم “هوجان” في الفيلم وقتل العشرات منهم وكأنه يقتل مجموعة من الذباب.
إبان صدور الفيلم الثاني قبل أربعة أشهر، قامت اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة العنصرية بتنظيم حملة دعائية ضد الفيلم تسبب في إيقاف عرض الفيلم في المحطة التلفزيونية التي مولته، واستطاع العرب هذه المرة من خلال الجهد المنظم هزيمة هوجان هزيمة حقيقية.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية