ما أجمل متعة التجول بين صفحات كتب القدماء، فهي ببساطة “تصدمك” بتنوعها وثرائها والحرية التي امتلكها مؤلفوها، وهذا قد يفسر الخلود الذي حققته هذه الكتب عبر مئات السنين.
كانت لعلماء القرون الهجرية الأولى الحرية المطلقة التي سمحت لهم بتأسيس مذاهب فقهية، ومناقشة مختلف قضايا العقيدة وإطلاق تيارات فكرية متنوعة، ومناقشة كل قواعد اللغة والخوض في تفاصيل المنطق، أما الحرية في الإبداع الأدبي، فلعل بعض ما نشر في تلك الأيام السالفة “أجرأ” من أن يمكن نشره في أيامنا هذه.
كانت هذه الحرية هي التي منحت حضارتنا العربية تدفقها العلمي والأدبي الهائل، وإذا كان في هذا التدفق الحر ما سمح لبعض الآراء الخاطئة أن تنشر، فإن الحرية نفسها وضعت هذه الآراء في الضوء الذي أحرقها بعد ما رد العلماء عليها.
لقد فهم الغرب أهمية “حرية العلم”، فعمل على إيجاد كل الظروف التي تمنح المجتمع الأكاديمي الحرية المطلقة التي لا تخاف قيود المجتمع، حتى صار يطلق على الجامعات “الحرم الجامعي” باعتباره مكانا “مقدسا” لا يسمح لأيدي القوى المتدخلة العبث فيه.
ومن المعروف أن الجامعات الأمريكية تلتزم بقانون قديم يجعل تعيين الأساتذة فيها تعيينا نهائيا مدى الحياة، بحيث يمنع تماما فصل أي أستاذ من الجامعة بعد انتهاء تعيينه وذلك حتى وفاته.
هدف هذا القانون أن يشعر الأستاذ الجامعي بالحرية الكاملة في أبحاثه ومؤلفاته وما يقدمه للطلاب في صالات الدراسة دون الخوف من الفصل أو الطرد نتيجة غضب اجتماعي أو سياسي عليه.
هذا القانون هو واحد من منظومة قوانين وتقاليد متبعة في المجتمع الغربي لحماية “الحرية الأكاديمية”.
ومن التقاليد الأخرى الملفتة للنظر هو أن المؤسسات العلمية والخيرية والحكومية التي تدعم البحث العلمي “وعددها بالآلاف” تمنع من تقديم الدعم للبحث على أساس محتواه، ولذلك تلتزم كل المؤسسات بتقديم الدعم المادي أو المعنوي للباحث قبل أن يبدأ بحثه، ولا يحق للمؤسسة التدخل بأي شكل في سير البحث أو إجراءاته ما دامت متوافقة مع الأعراف الأكاديمية.
هذا كله ساهم في أن يمتلك الغرب ما امتلكناه سابقا: انطلاق العلماء دون قيود، يعالجون مشكلات المجتمع، ويستكشفون قضاياه دون الخوف من كل أنواع الضغوط.
ولعل ما يجب التنبيه عليه أنني لا أقصد هنا التدخل السياسي، وإذا كان الضغط السياسي هو أحد الضغوط التي يخافها العلماء، إلا أن الضغط الأشد والأقسى عبر القرون هو الضغط الاجتماعي، ضغط المجتمع الذي لا يحب الأفكار الجديدة، أو التي تخالف أعرافه السائدة، أو تمس رموزه الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية “مهما كان النقد بناءً”.
إن مثل هذا الضغط يشكل مأساة حزينة، تأسر العلم والعلماء، وتجعل المجتمع مسيرا بعاطفة الجموع، وليس بعقل النخبة، وتضع الكل تحت رحمة الأفكار التقليدي، ويجعل المجتمع في دوامة التقليد والتكرار والغرور بدلا من الإبداع والنقد الذاتي.
هذا في رأيي الشخصي يمثل تشخيصا لحالة العلماء في عالمنا العربي اليوم، وأنا أريد رصد ظاهرتين مرتبطة بهذا التشخيص:
الأولى: الضغط الاجتماعي منع الكثير من العلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين والإعلاميين من التعرض للموضوعات “الحساسة” بشكل علني ورسمي، وصار هناك الكثير مما يسمى بـ”الفتاوى الخاصة” وهي فتاوى تعطى في المجالس الخاصة ولا تعلن خشية “إساءة فهم الناس لها”، كما نشأت عندنا عشرات الحالات من “التراجعات”، حيث يعلن الشخص رأيه، فيواجه بالضغط الاجتماعي ممثلا بنقد علماء آخرين، أو بنقد الناس في الإعلام، أو حتى بالمظاهرات.
الثانية: نشأ لدينا فن واضحة معالمه تصل بمن يتقنه للزعامة والشعبية الواسعة كقادة رأي وعلماء دين وإعلاميين بارزين، وكل الأمر أن هؤلاء لا يتميزون عن غيرهم إلا بمعرفتهم بكيفية الوصول للجماهير والاتفاق مع مشاعرهم وأحاسيسهم والقدرة على التلون كلما تغيرت هذه العواطف والمشاعر بشرط جمع هذه الصفات مع صفات أخرى تشعر الجماهير بأمانة وإخلاص و”هيبة” هذه الشخصية.
أصبح قادة الأمة ومشاهيرها من الخطباء الشعبيين وليس من العلماء الذين يملكون الحكمة والرأي الأكثر سدادا، والآثار السلبية الحادة لهذه الظاهرة واضحة للقارئ بالبديهة.
العلماء والمفكرون والمثقفون والإعلاميون والأدباء والفنانون وحتى طلبة الجامعات وطلبة المدارس وكل من لديه فكرة أو رأي أسيرون خائفون يرتعدون من المجتمع “الحساس” الغاضب، ولن أطالب بحل معين، حتى لا يفهمني أحد خطأ !!