أطباء ..«للزكام فقط»! (2)

من قسم منوعات
الإثنين 24 مايو 2010|

عندما انتقدت الأطباء في المقال السابق وقلت بأنهم جزء من معاناتنا اليومية في العالم العربي، فأنا بالتأكيد لم أقصد “كل” الأطباء، بل نسبة كبيرة منهم من الذين يحملون شهادات الطب، ولكن ممارساتهم اليومية في عياداتهم تدل على عدم تحملهم لمسؤولياتهم نحو تلك الشهادات، رغم الرواتب المميزة التي يحصل عليها الأطباء عموما.

المشكلة الأكبر حسب المقال السابق هي أن الأطباء لا يطوروا معلوماتهم التي حصلوا عليها في كليات الطب، وليس لهم اتصال جيد بقواعد المعلومات ولا يبحثون عن المعلومة، وخاصة في ظل لهاث يومي سريع لمقابلة أكبر عدد من المرضى والحصول على أكبر قدر من المال بأقل قدر من الجهد.

هذه ليست ظاهرة عربية فقط، فهذه المشكلة مشكلة عالمية، وإن كانت تتفاقم عربيا لعدم وجود جهود مكثفة على المستوى الرسمي لتطوير وضع الأطباء، وإجبارهم على رفع “جودة” أدائهم، وكانت منظمة الصحة العالمية قد بذلت جهودا مع عدد من وزارات الصحة العربية للعمل على أنظمة من هذا النوع، ولكنها اصطدمت بجدران البيروقراطية العالية وبحقيقة أساسية وهي أن معظم الدول العربية لا يوجد بها عدد كاف من الأطباء المتخصصين مما يجعل الحديث عن “استبعاد” الطبيب الضعيف أمرا غير منطقي للمسؤول البيروقراطي العربي.

في الحقيقة هذه المشكلة في طريقها للازدياد، وهذا ما أكده لي عدد من الأطباء الكبار، وذلك لأن ازدياد عدد جامعات وكليات الطب في العالم العربي، مع أساليب أكثر ضعفا وأكثر تجارية في التدريس وتخريج الطلاب سيبشر المستشفيات العربية بأفواج من خريجين أقل مستوى وأقل تعليما، مما ينذر بالمزيد من الكوارث على مستوى المستشفيات والعيادات في العالم العربي، فيما لا يبدو أنه يوجد أي محفز لعلاج الأمر.

حاليا يوجد أسلوبين شائعين في العالم العربي لـ”فلترة” الأطباء: الترخيص، والتركيز على الأخطاء الطبية.

الترخيص عادة يتم من خلال هيئة رسمية تقوم بفحص شهادتك وأنها غير مزورة ومن هيئة معترف بها مع اختبار خفيف الدم يستمر لعدة أيام في بعض الدول.

إذا أردت أن تعرف مدى فعالية هذه الهيئات وجدية اختباراتها _ والتي تقوم في كثير من الأحيان على “اختر الجواب الصحيح” _ وبعدها عن الواسطة والرشاوى، فانظر حولك وتساءل كيف وصل هؤلاء الأطباء إلى هنا.

أما التركيز على الأخطاء الطبية فموضوع طويل، ويقوم في الأساس على تقييم الدكتور على أساس عدد أخطائه الطبية، وترقيته أو تخفيض مستواه الوظيفي بناء عليه. بينما تجد في أمريكا وأوروبا ودول آسيا أن الأخطاء الطبية هي جزء يومي من نظام المحاكم، وأن الطبيب عليه أن يأخذ كل احتياط حتى لا يجد نفسه فريسة لمحامي متخصص، والذي لن يحصل منه على تعويض ضخم للمريض فحسب، بل سيضعه أيضا على لائحة العقاب لدى المجالس الطبية الحكومية، بينما تجد هذا قائم عالميا، يعالج الأمر في العالم العربي بين أروقة وزارات الصحة، والتي لديها ألف حافز لـ”احتواء” الأمر بطريقة أو بأخرى.

هذا لا يعني أن هناك إهمال كامل من وزارات الصحة العربية، ولكن من المؤكد لدي أنه أقل بكثير من المستوى المطلوب ليصبح فعالا في ترقية الطبيب الجيد وإخراج الطبيب الضعيف من النظام الصحي تماما.

تطوير مستوى الأطباء ليس صعبا إذا علمنا أن هناك آلية عالمية تم تأسيسها لهذا الغرض، والتي تقوم على شهادات المجالس الطبية (البورد)، وإذا كان الأمريكيون والكنديون والإنجليز يفتخرون بالمستوى العالي لشهاداتهم، وأنه لا ينالها إلا الطبيب المميز، فإن “البورد العربي” هو أضحوكة الأطباء العرب الذين يقولون بأن الحصول عليه مثل “شرب الماء”.

الطريف أن هناك أيضا نسبة عالية من خريجي الطب يفشلون كل عام في اختبار البورد العربي رغم سهولته، مما يعطيك مؤشرا حقيقيا على مستوى كليات الطب العربية.

هناك آليات أخرى يتخلص فيها الأطباء المخلصون من الأطباء الضعفاء، وتتمثل في اللجان داخل المستشفيات، والتي يجتمع فيها الأطباء للنظر في الحالات الخاطئة، يحاسبون من خلالها الطبيب الضعيف، وإذا كانت هذه اللجان قد وجدت وتطورت في المستشفيات الغربية لأسباب قانونية بحيث لا تتحمل المستشفى مسؤولية قانونية عندما يهمل الطبيب ويزور المحكمة، فإنها أصبحت أداة أساسية لمحاسبة الطبيب الضعيف.

هذه اللجان تكاد تكون منعدمة في النظام الصحي العربي، وموجودة أحيانا بطريقة شكلية غير فعالة، ولعله قدر لك يوما كما قدر لي أن تجلس مع أطباء في مستشفيات كبرى وراقية لتسمع عن كل أنواع المشكلات بين الأطباء حين يترقى الضعيف والجاهل لأنه يعرف المدير أو الوزير أو له قرابة أو أنه من نفس المدينة، بل أنني في حوار مع أحد الأطباء لفت نظري إلى أن معظم المناصب الكبرى في أحد المستشفيات الكبرى الشهيرة هي لأشخاص من نفس البلدة والتي ينتمي إليها المسؤول الأعلى عن المستشفى.

أنا أعرف أن كلامي قاسي وفيه تعميم، ولكنه نابع عن حقائق، ومرتبطة بواقع أليم نعيشه كل يوم في العالم العربي، وكم أعرف من الناس الذين هاجروا من العالم العربي أو رغبوا في الهجرة لأن الوضع الصحي يعيش هذه المأساة.

نظامنا الصحي يتطلب نظرة جديدة، نظرة تبحث بالفعل عن مكامن الخلل من الداخل وتحاول معالجته، نظرة لا تكتفي بالمظاهر بل تتسرب إلى الجوهر، بحيث تكون النتيجة أفضل..

في الأسبوع القادم، سأتحدث عن “طمع الأطباء”، وهذه حكاية أخرى !

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية