واحد من الميزات الهامة لتكنولوجيا الاتصالات عموما هي مساهمتها غير المحدودة في زيادة إنتاجية الفرد، والدراسات والملاحظات الشخصية تؤكد بلا شك أن ما كان يفعله الشخص خلال أسبوع أو أكثر، قد يفعله خلال يوم واحد، باستخدام الإيميل والموبايل والإنترنت وغيرها.
هذا الأمر انعكس أيضا من خلال الموبايل، والذي يسمح بشكل متسارع باستغلال الدقائق القليلة التي تأتي بين أمر وآخر، فنحن نستخدم أجهزتنا ونحن نمشي، ونحن ننتظر في المطعم أو في السوق، ونحن نتحدث إلى الأصدقاء أو حتى نشاهد التلفزيون، مما يعني أن أجهزة الموبايل سمحت لمن يريد أن يكون في حالة انشغال دائم، وفي حالة تعدد مهام لا تتوقف.
قد يشعر الإنسان أن هذا يعني زيادة إنتاجيته، واستغلاله للوقت بشكل سليم، وقدرته على الاستفادة من كل ثانية من وقته، وهذا شعور بدأ ينتشر في الدول الصناعية والتي يعيش فيها كثير من الناس هم القدرة على إنجاز الأشياء بأسرع وقت ممكن، وعدم إضاعة أي فرصة.
بالمقابل، هناك عدد ضخم من الدراسات النفسية ودراسات سلوك الدماغ والذاكرة والتي تقول بأن هذا يعني إضعاف قدرة الدماغ على التعامل مع الأفكار وإنضاجها، وقدرة الذاكرة على تخزين المعلومات وترتيبها، لأن الدماغ بطبيعته يستغل لحظات الهدوء ليقوم بـ”معالجة” الأفكار والمعلومات التي تلقاها وترتيبها بالشكل الذي يسمح باستفادة الإنسان منها بأفضل شكل ممكن.
لحظات الهدوء هي التي تساعد الدماغ على الإبداع، وتمنحه قوة استرجاع المعلومات، والقدرة على ترتيب المعلومات بشكل منطقي والاستفادة منها بأفضل شكل ممكن.
عندما تقل لحظات الهدوء هذه، فهذا يعني إرهاق الدماغ بشكل لا يسمح له بأداء وظائفه بالشكل اللائق، حتى لو شعر الشخص بأن عقله في نشاط دائم، وهو عادة أمر إيجابي، ولكنه مع استخدام تكنولوجيا الاتصالات زاد عن حده “وانقلب إلى ضده”، وكان أول ضحايا ذلك، الذاكرة طويلة المدى، ثم القدرات الإبداعية لدى الفرد.
بعض الباحثين _ في دراسة بجامعة ميشجين الأمريكية _ يقول بأن المشي في حديقة هادئة أكثر فائدة للدماغ من المشي في شارع مليء بالسيارات لأن الشوارع المزدحمة تعني انشغال الدماغ بالكثير من المعلومات التي تصل إليه خلال ثانية، والتي تمنعه من التفكير والإبداع بشكل مميز.
هناك مشكلة أخرى يعاني منها الدماع مع التكنولوجيا الحديثة وهي “الوسواس القهري” وعندما يصبح الإنسان متعلقا بأجهزة الاتصالات “الموبايل والكمبيوتر” بحيث يستخدمها بشكل روتيني مستمر حتى لو لم يكن لها حاجة، وهذه تساهم في عنصر جديد في استخدام الدماغ، والذي يصبح مشغولا بهذه المهام الروتينية وغير قادر على أخذ لحظات استراحة للقيام بمهامه الأخرى.
دراسة مشهورة تمت في أستراليا وهولندا وبريطانيا، ساهم فيها مئات الأشخاص، واستمرت أكثر من عامين، وصلت إلى نتيجة أن الاستخدام المكثف للموبايل يساهم بشكل واضح في “بطء” الدماغ في القيام بمهامه بشكل عام، وهي الدراسة التي أحدثت ضجة مع سعي شركات الاتصالات لإظهار عيوب الدراسة ومهاجمة أسلوبها العلمي.
عالميا، هناك إدراك من شركات الاتصالات وشركات محتوى الموبايل وشركات ألعاب الفيديو أن قدرة الإنسان على التركيز على مهمة واحدة صارت ضعيفة، وصار الإنسان يقضي وقتا محدودا فقط أمام برنامج معين أو يلعب لعبة معينة، حتى أن شركة لألعاب الفيديو تقول بأن معدل لعب الإنسان على الموبايل لا يزيد في المرة الواحدة عن 6.3 دقائق، وهذا ما جعل كل هذه الشركات تفكر مليا في إنتاج محتوى وألعاب وخدمات يمكنك استخدامها في اللحظات التي تفصل بين الشيء والشيء الآخر، لأن الإنسان صار بطبيعته سريع الملل، بحاجة لحركة سريعة، ومشغول بعشرات الأشياء في نفس الوقت.
هناك حلول لهذه المشكلات، ومن هذه الحلول أن يبحث الإنسان دائما عن التمارين التي تدرب الذاكرة والإبداع والتفكير، وهي تمارين كثيرة، وإن كان المتاح منها للفرد العربي قليلة بكل أسف.
أحد الحلول الأخرى، أن يدرب الإنسان نفسه أنه عندما تلوح له فكرة معينة، أو يتذكر أمرا معينا، أن يتوقف عن فعل كل شيء، ويعطي لعقله الوقت الكافي للاستغراق في الفكرة، لأن القتل المستمر لمحاولات العقل للقيام بمهامه الخاصة به، يؤدي لإضعافه بشكل سريع، وإرهاقه.
أحد الحلول الأخرى هي مقاومة أي سلوك روتيني “زائد عن الحاجة” في التعامل مع هذه الأجهزة، وأخيرا محاولة تخصيص وقت في اليوم يبتعد فيه الفرد عن وسائل الاتصالات، ويسمح لوظائف الدماغ أن تأخذ وضعها الطبيعي.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية