كيف أخدم وطني ؟

من قسم منوعات
الإثنين 09 أغسطس 2010|

الوطنية هي بلا شك ضرورة حيوية لنهضة أي وطن، ولكن المشكلة الأساسية في مفهوم الوطنية كما أراها هي تركيز من يتحدث عن الوطنية على أدبيات معنوية مثالية ونظرية بدلا من تحويلها لمبادئ عملية يعتنقها الصغير والكبير ويلمسون آثارها في حياتهم اليومية.

ولعل أجمل المبادئ العملية التي تمثل الوطنية في رأيي هي “الخدمة العامة” Public Service بشقيها المدني والعسكري، حيث يعمل المواطن متكاتفا مع أفراد الوطن الآخرين على خدمة الوطن وأفراده، وهي الخدمة والتي كلما ارتقت، ارتقى مستوى الوطن حضاريا في مختلف المجالات بلا استثناء.

هذا المفهوم يواجه مشكلات وتحديات كبيرة تجعله ضعيف التطبيق ويحتاج لنظرة تأمل وبرامج مكثفة لعلاج تلك المشكلات حتى يعود للمفهوم حيويته وتأثيره الإيجابي والعملي في نمو الوطن.

يطلق مصطلح “الخدمة العامة” على تكريس الإنسان لحياته لخدمة وطنه، بمقابل مادي، أو متطوعا، سواء كان ذلك كموظف حكومي، أو كناشط لتطوير الوطن من خلال القنوات السياسية الرسمية، أو كمتطوع بجزء أو كل وقته.

إن نمو روح “الخدمة العامة” والشعور بأن الساعات الطويلة التي يقضيها الإنسان في العمل الحكومي هي في الحقيقة لغاية أسمى من “الوظيفة” وتصب في نمو وطن الآباء ووطن الحاضر والمستقبل، هو ما يشجع الإنسان على إتقان عمله في الخدمة العامة، والتفاني فيه، وكلما نمت هذه الروح لدى عموم العاملين في الخدمة العامة _ الموظفين الحكوميين على وجه الخصوص _ فإن هذا أدعى لنمو الدولة وتفوقها وتطور خدماتها.

لكن هذه الروح في الحقيقة تعاني من الاضمحلال والضعف. هذا ليس خاصا بدول العالم العربي بل حتى في أوروبا العريقة بأنظمتها الحكومية والسياسية والتي تعاني هي الأخرى من ضعف ارتباط الأجيال الجديدة بأوطانها واهتمامها بالخدمة العامة.

يمكن لأي مراقب أن يحكي لك مجموعة أسباب تؤدي لضعف روح الوطنية والخدمة العامة لدى الموظفين اليوم، أو باختصار ضعف أداء الموظفين الحكوميين لأعمالهم، ومنها كما هو معروف شعور الموظف الحكومي بأنه جزء من آلة ضخمة “الوزارة أو المؤسسة الحكومية”، وأن جهده فيها لا يؤثر، وأن البيروقراطية تحيط بالمؤسسة من كل جوانبها بحيث تمنعها من الإنجاز، ولأنه يرى أن كبار الموظفين هم الأقل جهدا والأكثر استمتاعا بثمرات مناصبهم الوظيفية، بل الموظفين في آخر السلم يعملون أكثر بمحصلة أقل، حتى يتحول جهد الموظف إلى الحصول على ترقية بعد الأخرى في السلم الوظيفي، بأي طريقة كانت، بما فيها التملق لرؤسائه، فيما يلجأ آخرون لاعتبار العمل الحكومي كضمان اجتماعي ويضعون جهدهم خارج ساعات العمل في عمل خاص.

علاج هذه المشكلات يحتاج لجهود جبارة لإشعار الموظفين الحكوميين في جهاز ضخم بأنهم يؤدون في الحقيقة عملا ذا قيمة، وإعادة تحليل الأنظمة الإدارية بحيث تكون قائمة على الأهداف وليس على المهام، وأن يتم تقييم هذه المهام بشكل عادل، وإيجاد أنظمة تمنع سيطرة المدراء غير المنطقية، وأنظمة أخرى تكافأ أو تعاقب الموظف على قدر إنجازه لأهدافه آخر العام، وهذه أنظمة ليست جديدة كما هو معلوم بل مطبقة بشكل واسع في الشركات الكبرى في كل مكان.

بكلمات أخرى، تحتاج الإدارات الحكومية لأن تتحول لأنظمة مختلفة، تشبه أنظمة الشركات، ولكن الفارق هنا، وهو فارق كبير طبعا، أن الشركات تضع أهدافها على أساس تحقيق الأرباح في آخر العام، بينما تضع الأجهزة الحكومية أهدافها على أساس خدمة المواطن بأفضل شكل ممكن في آخر العام.

سألت مديرا حكوميا بارزا عن أهم معايير الأداء والإنجاز السنوية التي يقاس بها عمل وزارته في آخر العام، ما يسمى بالـKPIs، وضحك طويلا من سؤالي وكأنني إنسان لا أفقه شيئا مما أقول، أو أتحدث عن شيء لا ينم للواقع بصلة.

هناك تحد آخر ومهم، وهو كيفية السماح للموظفين غير الحكوميين بالخدمة العامة لأن خدمة الوطن يجب أن تكون متاحة لكل الناس وليست حكرا على أشخاص بعينهم، وهناك حلول عالمية كثيرة توجد برامج يشارك فيها الناس كمتطوعين أو بدوام جزئي أو خلال سنوات محدودة في حياتهم كمستشارين مثلا، وتعمل هذه البرامج على مزج عاطفة الخدمة العامة مع الطاقات المميزة في المجتمع لتعمل ضمن الأجهزة الحكومية، ولكن هذه الحلول في رأيي لا يمكنها أن تؤدي ثمراتها ما لم يتم إحداث ثورة إدارية في ضمن الأجهزة الحكومية لترتبط بالأهداف التي تتوزع من أعلى الهرم ضمن الجهاز الحكومي إلى أصغر موظف، وحينها يمكن ببساطة البحث عن دور لهؤلاء المتطوعين أو “المتعاونين” للمساهمة في تحقيق هذه الأهداف.

الوطن هو ما ينبغي أن تتجه إليه الطاقات التي تبحث عن وسائل خدمة الناس وخدمة الأمة، وهي طاقات ضخمة لو وجدت السبل الصحيحة للاستفادة منها بأكبر قدر ممكن.

المواطن الحقيقي هو إنسان عاشق “يعطي” لوطنه ومجتمعه، عندما يجد الطريقة المناسبة لذلك.

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية