العرب في حالة اشتباك ثقافي مخيفة !

من قسم منوعات
الإثنين 02 فبراير 2009|

خلال أحداث غزة تصاعد النقاش حول قضايا فكرية ومصيرية عديدة في العالم العربي، وأخذ النقاش مكانه عبر مواقع الإنترنت وشاشات التلفزيون والمجالس المسائية ورسائل الموبايل في كل مكان عربيا.

كانت غزة اختبارا حادا لضمائرنا، ودفعت الجميع لطرح كل الأسئلة، أسئلة جوهرية حول القضية الفلسطينية، وأسئلة جوهرية حول الحالة السياسية والفكرية والأيديولوجية في العالم العربي، وحول العلاقة بالآخر، وحول حياتنا اليومية كذلك.

الملاحظ في الحوار الدائر أنه يدور حول أساسيات القضايا وأبجديات التفكير، وكأنه لا توجد أي أرضيات مشتركة بين الفئات المشتبكة، ولا أظن أنه في مكان في العالم يوجد مثل هذا الخلاف الكبير والنقاش الذي يصل إلى الجوهر قبل أن يدخل في التفاصيل.

لكن هذه الحالة أمر حصل تاريخيا قبل ذلك عدة مرات، حصل لدى اليونانيين، وحصل في الحضارة الإسلامية، وحصل في أوروبا الحديثة، وحصل في آسيا قديما وحديثا، وأدى الاشتباك الفكري في كثير من الحالات إلى حروب وإراقة للدماء، وهو أمر لسنا ببعيدين عنه إذا نظرنا لحوادث الإرهاب بعد 11 سبتمبر على أنها انعكاس لهذا الاشتباك الفكري الذي أنتج مجموعة تريد حسم النقاش بلغة الدم.

لكن من يتأمل التاريخ يلاحظ أن الفرق المتناحرة حول الأفكار تكتشف فجأة أن هذا التناحر له آثاره السلبية العميقة على الصالح المشترك.

كيف يمكن أن تعمل أمة على النهضة وتحقيق الأهداف وهي لا تستطيع الاتفاق على المبادئ الأولية، وخاصة في حالة أمة مثل الأمة العربية التي تواجه دولها مشكلات تنموية ضخمة، وتحتاج للكثير من الجهد الجماعي غير العادي للوصول إلى الحلول ومواجهة تحديات الضعف والفوضى وتحديات “الآخر” المستفيد من هذا الضعف ؟.

في الأصل لا يتمكن المتناحرون من حسم خلافاتهم، ولا إقناع الآخر بآرائهم، ويكون عادة فك الاشتباك على أساس إيجاد أرضية حيادية يعمل من خلالها الأطراف المشتبكة على خدمة الصالح العام بينما يعودون إلى أراضيهم لممارسة الخلاف والاشتباك.

تأمل النظرية الديمقراطية التي استطاع الغربيون من خلالها فك اشتباكاتهم قبل قرنين من الزمن، وأوجدوا بذلك الأرضية الحيادية التي سمحت لهم أن يختلفوا إلى أقصى حد ممكن دون التأثير على مسيرة نمو الحضارة الغربية.

في العصر الإسلامي حصل نفس الشيء، واستطاع المسلمون التعامل مع عشرات الفرق التي كانت لها آراء عقدية خاصة بها، كما استطاعوا التعامل مع المثقفين والمتمردين الذي خرجوا عن السياق العام، واستطاعوا التعامل مع حالة الانقسام التي أنتجت في النهاية “السنة” و”الشيعة” من خلال إيجاد تيارات ثقافية وفكرية خاصة بكل اتجاه، ثم العمل المشترك تحت غطاء الخلافة لضمان استمرار قوة الدولة الإسلامية.

الآسيويون مروا بنفس التجربة، وتصاعدت التجربة في بداية القرن العشرين مع طموحات النمو الاستعماري الياباني والصيني والبريطاني، ثم استطاعوا عبر السنوات التركيز على التنمية الاقتصادية وترك الخلاف الثقافي والأيديولوجي في صناديق مغلقة.

حالتنا اليوم مختلفة وأقل قسوة، ولكنها في نفس الوقت صعبة الحل، وربما كانت فكرة “الأرضية الحيادية” ضرورة لعلاج المشكلة وفك الاشتباك، وخاصة أن هناك أناس يموتون كل يوم بينما نحن نتناقش، وأجيال تنمو ونحن نشتبك في معركة بعد الأخرى.

الطريف في حالتنا أن جزء من النقاش يحصل بين الناس في دولة والناس في دولة أخرى، وربما كان من الصعب إيجاد أرضية محايدة حين تطغى المشاعر الوطنية على الفكر وتصبح هي العامل المؤثر في النقاش.

إذا كنت تظن أنني أبالغ، فاستعرض مقالات الرأي خلال أزمة غزة وبعدها، واستعرض ما كتبه الناس على الإنترنت، وستفاجأ بحدة النقاش ومستواه ومدى تناوله للثوابت وكأنه لا توجد ثوابت.

طبعا تحتاج خلال فترة التصفح هذه أن ترفع مستوى الصبر لديك إلى أعلى مستوى لتتحمل الطريقة السطحية والتافهة التي يستعملها البعض لإثبات وجهة نظره حول الأمور.

نحن نشتبك والحكماء الذي يعملون لفك الاشتباك وإيجاد الإطار العام الذي يناسب الجميع ويمكننا بشكل موحد خدمة أوطاننا قلة جدا، وإذا وجدوا فلا أحد يسمع لهم، وإذا سمع لهم، فإن هذه مجرد خطوة على طريق من ألف ميل لعلاج المشكلة.

لا نحتاج أن نتفق على شيء، ولا بأس من الخلاف، إذا كنا في النهاية نعرف كيف سنعمل خلال اليوم لإيجاد حياة أفضل لنا ولأبنائنا.

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية