هناك كثير من الظواهر الاقتصادية في عالمنا العربي التي لا يفهمها الشارع، ويقرر عموم الناس أن هناك “مؤامرة” ما أدت لها، وساهم هذا في تعبير الشارع العربي عن غضبه على تلك الظواهر بطريقة أو بأخرى.
أمثلة هذه الظواهر في وقتنا الحالي هو ارتفاع الأسعار مع عدم ارتفاع الدخل المتناسب معه، وارتفاع أسعار البنزين في بعض الدول المصدرة للبترول، مثل الإمارات العربية المتحدة، وتذبذب العملات المحلية رغم التحسن الاقتصادي العام، كما يحصل في مصر.
في نظرية الاقتصاد الحر “الرأسمالية”، عوامل السوق المتمثلة في العرض والطلب تتولى عادة تصحيح السوق والتوازن الاقتصادي بين مختلف مكونات العملية الاقتصادية، ولما كانت النظرية الاشتراكية الاقتصادية مطبقة في عدد كبير من دول العالم كانت هناك آليات واضحة للتحكم في الظواهر الاقتصادية اليومية لتجنب هذه المشكلات.
ولكن هذا الأمر لا يحصل في العالم العربي وذلك لأنه لا توجد نظرية اقتصادية معينة مطبقة بحذافيرها، فنظرية الاقتصاد الحر غير مطبقة مع وجود حجم ضخم للاستثمارات الحكومية ووجود عدد من صيغ الاحتكار في أوساط القطاع الخاص، ووجود تشريعات قانونية كثيرة تحد من حرية الحركة والمنافسة الحرة، وتجعل عوامل العرض والطلب في حالة خلل دائم.
هذه المشكلة ليست جديدة فهي جزء من كوننا نعيش في دول نامية، فأنت لا تستطيع أن تطالب الحكومات أن تبقى خارج الصورة الاقتصادية بينما هناك نسبة عالية من الناس بلا تعليم كاف يضمن لها الوظائف، والاستثمارات لم تنضج بما يكفي لتترك للمنافسة حريتها، ولأنه ينبغي حماية الحراك الاقتصادي الوطني الناشيء ضد منافسة الأجنبي الذي لو دخل السوق الحر لربما سيطر عليها.
هذه الأسباب أدت لتوسع تدخل الحكومات والقوى المؤثرة في صناعة الاقتصاد العربي، وإن كان هذا التدخل يتفاوت تأثيره السلبي والإيجابي من دولة إلى أخرى بحسب الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنطلق منها الحكومة.
التدخل الحكومي ليس مرفوضا في نظريات الاقتصاد الحر والرأسمالي بل يحصل في مختلف دول العالم ولكن بناء على إطار نظري معين وليس حسب الظروف التي يراها صانع القرار.
نقطة الضعف الأساسية في كل ما سبق هي أن خبراء الاقتصاد لم يبذلوا جهدا كافيا لوضع نظريات تناسب حال العالم العربي الذي يطبق خليطا ضعيفا من مختلف نظريات الاقتصاد الحر، بحيث يمكن لصناع القرار وللمفكرين أن يروا آليات واضحة تساهم في حماية الاقتصاد من الآثار السلبية للتدخل الحكومي وتضمن وجود آثاره الإيجابية.
لو نظرت لأوروبا مثلا، لوجدت أن هناك غلاء غير عادي، ولكن بسبب آليات العرض والطلب الحرة، فإن دخل الناس وحركة السوق والمنافسة والقيود والتشريعات القانونية كلها تتغير بشكل تلقائي حسب نظريات الاقتصاد الحر لجعل هذا الغلاء جزءا مقبولا من معادلة النظام الاقتصادي هناك.
في أمريكا، بمجرد أن يخرج محافظ صندوق النقد المركزي ليرفع سعر الفائدة، فإن هذا مباشرة يتبعه بطء في الاستهلاك والإنفاق، وبطء في الاستثمارات، وبالتالي بطء في الاقتصاد مما يضع ضغطا على العرض من خلال تقليل الطلب فتحافظ الأسعار على ثباتها ولا ترتفع متأثرة بالنمو الاقتصادي.
لقد تأسست نظرية الاقتصاد الحر على أساس المنافسة المطلقة التي لا تتأثر بأي عوامل تمنع المنافسة، وهذا ما يفسر مثلا جهود الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لمنع Microsoft من احتكار سوق برامج الكمبيوتر، مستفيدين من قوانين استخدمت في السابق لتقسيم عدد من الشركات الكبرى بحيث تتنافس الشركات الجديدة مع نفسها وتؤدي المنافسة للحفاظ على حيوية عوامل السوق.
هذا الواقع يتطلب جهودا أكاديمية مكثفة منطلقة من الواقع التنموي والسياسي والاجتماعي العربي لوضع نظريات اقتصادية تكون بمثابة الشموع التي تضيء طريق صناع القرار الاقتصادي.
إنني لا أفهم لماذا بقي دور الجمعية الاقتصادية السعودية محدودا في القيام بهذا الدور رغم أنها تضم تحت مظلتها نخبة من أكاديميي ومفكري الاقتصاد السعوديين.
أنا لست من المتحمسين للنظرية الرأسمالية، أنا أتحدث عنها الآن بحكمها النظرية الوحيدة المتكاملة المطبقة حاليا بنسخها العديدة في أنحاء العالم. أنا متحمس فقط لإلتزام الاقتصاد بإطار نظري واضح، وأطالب الباحثين بنظرية اقتصادية أخرى _ مستمدة من مبادئ الاقتصاد الإسلامي مثلا _ أكثر تناسبا مع احتياجاتنا وظروفنا عموما.
على الناس أيضا أن تصبح جزءا من عملية تفكير وطنية حول إصلاح الإطار النظري للاقتصاد حتى يفهموا الأسباب التي يواجهها صانع القرار السياسي والاقتصادي في عالمنا العربي.
ببساطة نحتاج لنظرية اقتصادية!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية