لما انطلقت الحملة الدعائية “جدة غير” بمناسبة الموسم السياحي في جدة، كانت الحملة بشارة البداية لإطلاق مدينة جدة كعلامة تجارية، ورغم أن الكثير يجب عمله لتطوير حملة تسويقية متكاملة ولتطوير الصورة الذهنية لمدينة جدة سواء على صعيد أهداف الحملة أو تفاصيلها، إلا أن البداية تؤكد أن الوعي بأهمية “تسويق المدن” بدأ يأخذ طريقه إلى اجتماعات التخطيط الرسمية.
أذكر جدة كمثال متفائل على ما تحدثت عنه خلال الأسبوعين الماضيين عن بناء الصورة الذهنية للمدن وتسويق اسم المدينة ليصبح رمزا مشهورا لدى الناس يرتبط في أذهانهم بأمور إيجابية بحيث تعود الحملة التسويقية في النهاية بالخير على المدينة وسكانها وأنشطتها التجارية.
لكن جدة لم تكن المحاولة العربية الوحيدة، فقد كانت هناك محاولات أخرى سواء كانت في الدار البيضاء أو بيروت أو القاهرة أو البحرين ولكن دبي تبقى أفضل هذه المحاولات وأكثرها لفتا للانتباه.
وقفت دعائم الحملة التسويقية لدبي على ثلاثة أهداف رئيسية: جعل دبي اسم معروف عالميا، وإبراز دبي كمكان عالمي لتحقيق الأرباح، وتقديم دبي كوجهة سياحية عالمية.
لقد عملت الحملة التسويقية والإعلامية المرتبطة بدبي على الحرص على ترديد اسم المدينة في أكبر رقعة من العالم بكل طريقة ممكنة، وبعض هذه الطرق كان مبدعا وجديرا بالإشادة، وفي نفس الوقت ساهمت الحركة العمرانية الضخمة وكون دبي تقدم خدمات تجارية مميزة مقارنة بالمدن الأخرى في المنطقة في دعم تلك الحملة التسويقية.
هذا في النهاية كان له دور كبير على بناء صورة ذهنية إيجابية بالرغم من حداثة المدينة وكونها في النهاية تحمل صفات العالم النامي التي ينتقدها الغربيون، وبالرغم من عدم جاذبية الطقس أو الطبيعة أو التركيبة الديموغرافية للمدينة وضعف الحركة الثقافية فيها.
الدليل الأكيد على نجاح الحملة هي إقبال مختلف الناس في أنحاء العالم على دبي التجارية ودبي السياحية ودبي كمكان عمل أو كمحطة لتوقف رحلات الطيران أو لحضور معرض تجاري أو التسوق أو لشراء قطعة عقار مضمونة الربح.
واحدة من أهم نقاط نجاح دبي في بناء حملاتها التسويقية هي اجتذابها لعدد هائل من أفضل شركات الإعلان والعلاقات العامة والمؤسسات الإعلامية والتي تحولت في النهاية لوقود يساعد هذه الحملة على المضي قدما عاما بعد عام بنجاح يصعب على عاصمة أخرى تحقيقه بدون جيش خبراء التسويق والإعلان الموجود في دبي.
هذا يتوافق مع النتائج العالمية في هذا المجال، حيث يؤكد ريتشارد فلوريدا، أحد علماء التسويق البارزين في كتابه “صعود الطبقة المبدعة”، صدر عام 2002، أن اجتذاب المدينة للطبقة المبدعة يكاد يكون العامل الأهم في نجاح الحملة التسويقية للمدن، بل إن المؤلف ربط بين “موت المدن” وبين هروب المبدعين والمثقفين من المدينة.
إن اجتذاب رؤوس المال وإثارة طمع الشركات الكبرى ورجال الأعمال هو أحد عوامل نجاح المدن وأهداف تسويقها، ولكن هناك هدفا آخر مختلفا وهو محاولة اجتذاب النخبة من الناس _ سواء كانوا مبدعين أو رجال أعمال أو أثرياء _ ليروا في مدينة ما مكانا مثاليا للحياة، وهو الأمر الذي عملت مدن مثل جنيف وهونج كونج وسان فرانسيسكو، على العمل جاهدا لتحقيقه.
هذا العامل سيزداد في الصعود خلال السنوات القادمة لأن العولمة سمحت لكثير من الناس أن يعيشوا في أي مكان يختارونه مع وجود الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات، ولأن التجارب أثبتت أن جاذبية المدينة للحياة والسكن عامل مهم في نجاحها لاجتذاب رؤوس الأموال.
إن تسويق المدن وبناء الصورة الذهنية للدول يجب أن يركز في رسم حملتها التسويقية على إبراز ميزات للدولة والمدينة تتجاوب مع احتياجات الجمهور وفي نفس الوقت تقدم ما لا تقدمه المدن الأخرى، وهذا التحدي المستمر الذي تواجهه كل مدينة تريد أن ترى نفسها على خريطة العالم اليوم.
تبقى التجارب العربية في النهاية متواضعة أمام التجارب العالمية في مجال تسويق المدن، والتي تميزت دائما بوضوح الهدف وبضخ إمكانات هائلة وراء الحملة التسويقية مما يؤكد في النهاية الإيمان العميق بقيمة تحسين الصورة الذهنية للمدن والدول.
لقد استطاعت نيويورك وباريس ولندن وجنيف وسنغافورة، أن تمتلك أحلام ملايين الناس، وهناك عدد من المدن التي تبذل جهودا ضخمة للحصول على الموقع نفسه في أستراليا والصين وآسيا وجنوب أفريقيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، وهناك مدن حققت النجاح يوما وبدأت تفقد جاذبيتها تدريجيا مع عدم مواصلتها مسيرة النجاح مثل روما ومدريد وشيكاغو.
العولمة حولت المدن لما يشبه العلامات التجارية تماما!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية