هناك مشكلة حقيقية في كثير من دول العالم العربي تتمثل في الحساسية والعلاقة السلبية بين جمهور “المتدينين” أو “الملتزمين” وبين جمهور “غير المتدينين”.
آثار هذه العلاقة السلبية يبدو واضحا على مستويات عديدة سواء منها في مجالات الحياة العملية أو الأسرية والاجتماعية أو السياسية، مما يزيد من الحاجة لمعالجتها.
تزداد هذه المشكلة في الدول العربية غير الخليجية بسبب الوجود القوي لمختلف التيارات الأيديولوجية، وهو الأمر الذي ما زال محدودا في دول الخليج لأسباب عديدة ليس هذا محل نقاشها، ولكن يمكن التأكيد أنه منذ انتشرت “الصحوة الإسلامية” في بعض الدول العربية، والقضية حاضرة، وتم معالجتها بالفعل ثقافيا ودراميا وخاصة في الدراما المصرية والكويتية.
وقبل أن أخوض في هذه القضية علي أن أؤكد رفضي المطلق وبلا استثناءات لمصطلح “المتدين” أو “الملتزم” وذلك لأنه مصطلح مخالف في منطقه لمبادئ الشريعة الإسلامية، فالإسلام يقوم على مجموعة كبيرة ومتراكبة من المبادئ والعبادات والأخلاق والسنن، ومن المعروف أن الإنسان بطبعه يلتزم ببعض ما تطلبه الشريعة الإسلامية ويهمل البعض بدرجات متفاوتة ومتعددة، وليس هناك بالضبط طبقات معينة للالتزام بالشرع الإسلامي، فهناك من الصحابة من شرب الخمر ولكنه كان مجاهدا، وهناك من كان عابدا ولكنه أخطأ عندما دخله العجب أو الكبر، وفي زماننا هذا تجد الشخص حليق اللحية ولكنه صادق في قوله ومعاملاته، وتجد الشخص الذي تظهر عليه كل مظاهر “الالتزام”، ولكن قد تكون عنده مشكلة إخلاف الوعد أو سوء معاملة الجار أو عدم الالتزام بمواعيد العمل.
هذا المنطق المعروف عن الإسلام وطبيعة تعاليمه تفسر لماذا لم تنشأ مصطلحات “التدين” أو “الالتزام” إلا في العقود الأخيرة من الزمن لما ازداد التركيز على المظاهر وصار المظهر يمثل شيئا يشبه “الفاصل الطبقي” بين من يظهر عليهم التدين ومن لا يظهر عليهم التدين، تماما كما تفصل السيارة الفخمة أو مكان السكن بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة في مجتمع ما، مع فارق أساسي وخطير هنا وهو أن هذا الفاصل الاجتماعي يمتد أحيانا ضمن الأسرة الواحدة.
حساسية العلاقة بين “المتدين” و”غير المتدين” تنشأ مع ثلاثة أسباب رئيسية:
- الأول: أن الشخصية “المتدينة” تميل في العموم لمحاولة التأثير على الآخرين وذلك في الغالب من خلال تقديم النصح لهم، وأحيانا من خلال أسلوب أكثر تشددا، بينما الشخصية “غير المتدينة” تميل في الغالب للتركيز على أهمية الحرية الشخصية وتحمل مسؤولية فعل ما يريد وعلى أهمية تطبيق فهمه الخاص لما يجب عمله من الناحية الدينية ومفاهيمه الشخصية حول الحساب والعقاب.
ولأن الثقافة العربية لا يوجد فيها رؤية واضحة لقضايا الحرية الشخصية، يتحول “النصح” أو “الإنكار” إلى مثار للمشكلات والحساسيات بين الفئة التي تنصح وتنكر وبين الفئة التي تتلقى النصح، وعادة يتحول الأمر لجدل بيزنطي حول الأخلاق والقيم، فعندما تأتي امرأة محجبة إلى امرأة غير محجبة وتحدثها عن الحجاب تغضب الأخرى وتتحدث عن العفة والأخلاق، وأنها أهم من الحجاب، ويبدأ جدل لا ينتهي من تلك النقطة.
- الثاني: أن الناس بطبيعتها ترفض “الضغط الاجتماعي”، وكثير من الناس “غير المتدينين” لا يفهمون الدوافع التي يمتلكها الإنسان المتدين التي تدفعه للنصح والإنكار على الآخرين، كما لا يفهم “المتدين” دوافع الآخرين الذين يحاولون نصحه في اتجاه آخر أو يطالبونه بأهمية احترام الحرية الشخصية أو آراء الآخرين، مما يحول النقاش من نقاش “فكري / ديني” إلى محاولة لرفض الضغط الاجتماعي والانعتاق من أي قيود يحاول الآخرون فرضها على الشخص.
- الثالث: أن الأمر في كثير من الأحيان وخاصة في الدول غير الخليجية مرتبط بانتماء أيديولوجي أعمق من قضية التدين وعدمها، وهذا الانتماء يفسر الحماس الشديد لبعض الأشخاص، كما يفسر وجود أشخاص “متدينين” ظاهرا وفكرا ولكنهم “عاديين” في ممارساتهم الدينية، وهو أخيرا يفسر العلاقة المتوترة جدا بين الفئتين.
أنظر مثلا للوضع في الأردن أو مصر أو السودان أو المغرب كنموذج قوي على تداخل التدين والانتماء الأيديولوجي في العلاقة بين الناس.
هذه القضية تحتاج إلى حل، وخاصة في فترة تداخلت فيها مصطلحات التدين مع مصطلحات الأصولية والإرهاب، والحل يكون في رأيي من خلال إلغاء كامل وواضح للمصطلح، وعدم ربط “الالتزام” أو “التدين” بمظاهر معينة، وكذلك عدم ربط “التدين” باتجاه أيديولوجي معين مثل الانتماء لـ”الأحزاب الإسلامية”، وأخيرا بناء ثقافة عامة ومشتركة حول قيم حرية التعبير والتعددية، لأن وجود هذه الثقافة والاتفاق على عناصرها سيساعد الناس على علاج هذا الخلاف الجذري في حياتهم.
لا يجوز استغلال الإسلام بأي شكل من الأشكال !
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية