الحياة صعبة، قاسية، جافة، مليئة بالظروف المتراكمة، تحيط بك أحيانا بلا رفق، وتتحدى شعورك الإنساني، لتصيبك في مقتل، وهي تمضي بسرعة لتكتشف أن معاناتك مجرد نقطة في بحر الحياة الزاخر الذي انطلق منذ زمن بعيد قبل ولادتك، وسيمضي طويلا بعد وفاتك.
هذه ليست خاطرة أدبية، ولا مقالة رومانسية، إنه حديث إنساني يبحث عن جوهر القضية، عن المناخ الذي يجمعنا نحن البشر جميعا، لأن فهمنا لهذا المناخ قد يجعلنا نرى الأمور بشكل مختلف، ونتعامل معه بشكل أعمق وأذكى وأجمل.
هذه أيضا ليست عبارات تشاؤمية، فأنا أكره التشاؤم، ولكنها حقيقة الحياة منذ أن بدأت، وضحكاتنا التي تتسرب من أفواهنا لا تنفي أبدا أن الحياة تواجهنا كل يوم بالصعاب، واستخدامنا للمظلات لا ينفي حرارة الشمس القاسية.
سر قسوة الحياة كامن في ضعف الإنسان، الإنسان الذي يهرب من الموت حيث ينتظره في آخر مسيرته وتتجاذبه طموحات القوة ورغبته في الحياة الجميلة، وهواجسه النفسية، وغرائزه التي تسيطر عليه أحيانا، وهو لا يملك أمام هذا كله إلا التظاهر المسكين بالسيطرة على مقاليد الأمور، بينما حقيقة نفسه الضعيفة تأخذه في كل اتجاه، وهو أينما ذهب على الحافة التي قد تنجرف به في أي لحظة في مشكلة من المشكلات.
إن إدراكنا لكون الحياة قاسية على الجميع، وأن الإنسان ضعيف جدا أمام مختلف أنواع الظروف، يجعلنا نقلل كثيرا من الغضب ضد الآخرين ونمتلأ بالرحمة والتسامح.
هذا هو الشعور الذي ملأ نفوس الأنبياء الذين تسامحوا مع أقوامهم رغم رفضهم الشديد لهم، فقط لأنهم أدركوا رحمة الرب عز وجل، وأدركوا ضعف الناس وحماقتهم التي تجعلهم يرفضون دعوة هؤلاء الأنبياء.
تخيل نفسك، كما أنت، وقد ولدت في بلد آخر على دين آخر، وعشت في حياتك بين الطفولة والمراهقة والبحث عن الوظيفة والمتعة في أول شبابك، ثم البحث عن عائلتك، لتعاني أخيرا من الشيخوخة.
هل كنت لتتعرف على دين آخر ؟ ولو سمعت عنه في الإذاعة أو على التلفاز هل كان هذا يكفي لكي تركب سيارتك وتذهب للمكتبة وتطلب كتابا عن هذا الدين لتقرأ عنه ثم لترحل لدولة أخرى لتعرف المزيد وتقرر أن تترك ديانتك وتعتنق ديانة أخرى ؟ هذا ما هو المفروض أن يحصل، أن يبحث الإنسان عن الحقيقة، ولكن الإنسان ضعيف مشغول بهمومه اليومية ودائما يعاني من النعاس والملل والنسيان والجوع وفي كثير من الأحيان من الوحدة القاتلة.
هذا الأمر جعل الأنبياء يرحمون أقوامهم، كما جعل النص الديني فيه كثير من الرحمة لمن يرتكبون المعاصي، فمرتكب الإثم رجل ضعيف أيضا، جذبته شهواته ونفسه المرهقة ليمضي وهو معلق بالتسويف والآمال ونفسيته المتلهفة للخروج من دائرة الحياة الصعبة.
نحن نحتاج للتسامح وللروح الإنسانية أن تسري بيننا ونحن نناقش مختلف القضايا.
بدون الروح الإنسانية تصبح أحاديثنا كلها جافة غبية، ونصبح منافقين، لأننا نهاجم غيرنا، ونحن لا ننتبه لكوننا أضعف منهم، وأكثر فجورا منهم، وأكثر استسلاما للدنيا وشهواتها، وللنفس ورغباتها.
تخيل نفسك مكان هذا الطفل المتسول على قارعة الطريق.
طفل صغير كان يمكن أن ينعم بالمكيف والأكل اللذيذ واللعب مع الأصحاب، وجاء من يستغله، محرضا أهله باسم الكسب السريع، فضربته أمه وأجبره أباه وصار يعمل لساعات طويلة يعطيه قليلون، وينهره كثيرون.
تخيل حياة هذا الطفل، وتخيل كيف كنا سنناقش قضية التسول ونحن نتذكر معاناته.
معاناة الفقراء دائما أمر حزين، وهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم، يتمنى أن يكون الفقر رجلا ثم يقتله، لأن قلبه الرحيم لم يتحمل قسوة الفقر على البشر.
لو تذكر هذا مدراء الشركات العظام ومخططوا الاقتصاد ومنظروا الصحافة، لكان تعاملهم مع كثير من القضايا مختلف.
إنني أرحم حتى المدراء هؤلاء، لأن ضعفهم أمام انهمار الحياة أمامهم، يجعلهم دائما في موقف الذي يلعب في مدينة ملاهي تطير به بسرعة هائلة، وهو سعيد ضاحك لا يعرف بما يحدث من حوله.
ما أضعف الأغنياء أمام رغباتهم، وأمام مخاوفهم من زوال الحياة الجميلة، ولو زالت لاستحقوا الرحمة أكثر.. “ارحموا عزيز قوم ذل”.
تخيل المرأة العانس، التي حكم عليها المجتمع بمحدودية الحركة، وحكمت عليها نفسها الضعيفة بالخوف والحرمان، وهي تنظر للسنوات الطويلة أمامها التي تسبق الموت، والأمل يبدو خافتا كخفوت الضوء الذي يتسرب لغرفتها عند الفجر حيث لا زالت مستيقظة تحاول خلق الأمل حتى يمكنها النوم.
كيف يمكننا أن نناقش قضايا المرأة وقضايا العنوسة والزواج، ونحن لا نتذكر ضعف المرأة وقسوة الحياة عليها ؟
لقد انتشر بيننا الإرهاب بأنواعه، إرهاب العنف أو الإرهاب الاجتماعي أو غيره، لأن قلوبنا القاسية صارت تنظر للأفكار والمبادئ والعادات والتقاليد بلا تسامح، بلا تذكر لقسوة الحياة وضعفنا أمامها، لأننا منافقون نظن أننا أفضل من غيرنا، بينما قلوبنا تمتلئ بالقيح الأسود، لأننا مثاليون ضعفاء، نريد من الآخرين أن يطبقوا ما قسونا على أنفسنا به، أو حتى أحيانا ما عجزنا عنه، أنظر لقسوة الآباء على أبناءهم فيما لم يحققوه هم بأنفسهم.
دعونا نعلن أننا بشر، من بني آدم، كلنا إخوة في الآدمية، كلنا ضحايا الحياة الجبارة، كلنا ضعفاء، وكلنا نستحق أن يرحم بعضنا البعض.
الإنسان هو المحور الذي تدور حوله كل القضايا، وإذا كانت الرحمة ستعطي الإنسان مساحة للحركة والراحة من أغلال الدنيا، فأولى بنا أن نرحمه من أن نرهقه.
اقرأ القرآن وتأمل الآيات فكلها نداءات للرحمة، وكلها تبدأ “بسم الله الرحمن الرحيم”..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية