تؤكد هذه الآية الكريمة مفهوما حضاريا مهما، وهو الاهتمام بدقة المعلومة وصحتها، قبل اتخاذ أي رد فعل بناء عليها، وهذا المفهوم _ كما هو معروف _ يتكرر بكثافة في النصوص الشرعية التي تنهى عن “القيل والقال” وتجعل الصدق المطلق وطلب العلم والتوثق قبل الاتهام وحسن الظن أسسا في تفكير الإنسان المسلم.
ولكن هذا المفهوم بعيد عن التطبيق في حياة الناس اليومية، وخير مثال على هذا الاحتجاج الشعبي العام على ما حصل من إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنمارك، وهو إحدى تلك المناسبات التي يبحث فيها الناس عن المعلومات، ويزداد تداول الأخبار والمعلومات سواء في المجالس العامة أو عبر رسائل الجوال أو الإنترنت أو غير ذلك، وخاصة أن الناس قررت بشكل أو بآخر اتخاذ رد فعل على ما حصل.
بدأت حملة المقاطعة بكم هائل من الإيميلات والملصقات ورسائل الجوال التي تنادي لمقاطعة شركات معينة، ومعظم هذه الشركات في الحقيقة ليست دنماركية ولا علاقة لها بالدنمارك على الإطلاق، وبعض هذه الشركات لها علاقة بالدنمارك ولكنها شركات سعودية أو خليجية تستفيد من عقود تجارية مع الدنمارك، ولكن أحدا لم يكلف نفسه أن يتأكد من هذه المعلومات قبل إلحاق الأذى بأموال الناس واستثماراتها، كما لم يحدد أحد ماذا يقصد بكلمة “شركة دنماركية”.
بعض الرسائل تحدثت عن أرقام في منتهى المبالغة عن تأثير المقاطعة على الدنمارك تجاوزت أحيانا الـ 70 في المائة، بينما في الحقيقة لا تزيد نسبة صادرات الدنمارك للعالم العربي عن 1.7 في المائة من صادراتها “1.22 مليار دولار حسب تقارير عام 2004”.
رسائل أخرى تحدثت عن عقود جديدة لشركات سعودية مع شركات دنماركية لـ”إنقاذها من الورطة”، وطبعا هذه المعلومات كانت غير صحيحة، وربما استفاد بعض المنافسين من تصديق الناس لكل ما يردهم وعدم قيام وسائل الإعلام بدورها من تقييم للمعلومات الرائجة وأرسل هذه الرسالة.
بل إن أصل قصة مقاطعة الدنمارك قامت على أساس جهود وفد تابع لمؤسسة إسلامية في الدنمارك طاف العالم الإسلامي بملف متكامل من الصور _ منشور على شبكة الإنترنت _ والتقى بعدد من القادة والشخصيات الإٍسلامية، ويتضمن هذا الملف _ بالإضافة إلى الصور السيئة التي نشرتها الصحيفة الدنماركية _ مجموعة من الصور شديدة الإساءة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ثم اعترف قائد الوفد لاحقا في حوارات صحافية بأنه دس هذه الصور التي لم تنشر في الصحف الدنماركية ومأخوذة فقط من الإنترنت دون التدقيق في صحة علاقتها بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأنه ينوي القيام بجولة أخرى لتبرئة ساحته بعد أن تاب إلى الله مما فعل.
أحد أشهر الدعاة البارزين في المملكة ألقى خطبة جمعة هاجم فيها إحدى الجهات هجوما شديدا لأنها لم تقف الموقف الملائم في حملة المقاطعة، واستدل بذلك على خدمة هذه الجهة لأهداف المؤسسات الغربية “الحاقدة”، ولو كلف الشيخ نفسه دقيقة واحدة لمراجعة موقع تلك الجهة على الإنترنت للتأكد من معلومته لاكتشف أن رسالة الجوال التي وصلته ألفها رجل كاذب.
إنه من المؤلم أن تكون حياتنا وقراراتنا مبنية على أكاذيب وأوهام ومبالغات ومعلومات خاطئة، وهذا يشرح لماذا نصت الشريعة الإسلامية على أن نشر الأكاذيب من الكبائر، وهو أيضا يشرح خوف الكثير من المفكرين من “نظرية المؤامرة” التي تقوم عادة على استنتاجات وتحليلات ومعلومات لا يمكن التبين منها على أقل تقدير، إن لم يكن من السهل الاستنتاج أنها خاطئة أو مبالغ فيها.
إن هذه المشكلة التي نعانيها هي نفسها المشكلة التي يعانيها الإعلام الغربي عندما يسيء إلى الإسلام، لأن هذه الإساءات تقوم دائما على معلومات غير صحيحة، ولو استطعنا تكوين رسالة عالمية تقوم على جمع مبادئ حرية التعبير مع المسؤولية الاجتماعية المرتبطة بالتدقيق في المعلومات وصحتها لربما عالجنا هذه المشكلة من جذورها، ولكننا نحن أكثر من يعاني هذه المشكلة، و”فاقد الشيء لا يعطيه”.
نحن في عصر المعلومات، وهذا يعني أن المعلومات متوافرة وسهل الوصول إليها وتدقيقها، ولكننا أيضا في عصر الاتصالات، والكلمة تطير في أرجاء الدنيا في لحظات، ويمكن لشخص كاذب أو متوهم أن يحدث آثارا كبيرة بمجرد أن يرسل شيئا من جواله أو إيميله لمجموعة من أصدقائه، الذين يبادرون فورا بإرسالها إلى مجموعة أخرى، والكل في حالة تصديق والتقاط من دون أي وعي.
اللطيف أن الآية الكريمة توحي بأن الإتيان بالخبر غير الصادق هو من صفات “الفاسق” الذي لا يعنيه أن تؤدي إشاعته إلى إصابة قوم “بجهالة” حسبما تقول الآية نفسها.
بذلك تجيب الآية عن هذا التناقض العجيب عمن يدعي أنه يعمل على خدمة الإسلام والنبذ عن عرض الرسول، صلى الله عليه وسلم وهو بعيد عن واحد من أهم مفاهيم الإسلام نفسها، ولكن ليس في الأمر غرابة على الإطلاق، لأن حياتنا كلها بكل أسف “تناقضات”!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية