كانت لحظات زيارة معرض الكتاب في الرياض ذهبية بكل ما تعني الكلمة، جمهور من كل الفئات يجوب المعرض المنظم بعناية، يستعرض كل أنواع الكتاب، بينما نسمات الحرية تهب على الجميع بهدوء، فالكتب الممنوعة صارت معروضة، والكتب التي كانت تستقدم من وراء الحدود صارت متاحة للجميع، ودور النشر التي عاشت على الكتاب المحظور _ بما فيها الكتب المسيئة للسعودية وأهلها _ صار لها وجود داخل المعرض.
الحرية علامة على الثقة بالنفس؛ الثقة ببناءك الفكري والثقافي يجعلك لا تبالي بما يسمح له، لأنك لا تخاف من كتاب على كيان كامل، بل تسمح للناس أن يروا بأنفسهم ويرفضوا بأنفسهم ويقتنعوا بأنفسهم بعد أن “تتعرى” لهم الحقيقة.
الحرية أيضا تلغي “السوق السوداء”، ففي السابق انتشرت كتب كثيرة لا قيمة لها لأنها ممنوعة فقط، الأمر الذي جعلها علامة فخر للأفراد الذين يسعدون لأنهم تجاوزوا الأنظمة وحصلوا على الكتاب المحظور.
الحرية بالمقابل تؤسس للسوق المفتوحة للأفكار حيث الفكرة القوية تنتصر على الفكرة الضعيفة، والحرية تساهم في بناء مجتمع تعددي يقوم على الحجة والبرهان والحوار، ما دامت كل الأفكار مطروحة للعرض والنقاش.
أحد الأصدقاء عبر بنشوة عن معرض الكتاب بأنه “عرس ثقافي”، ولكنه في رأيي عرس ثقافي ناقص، ونقصه لا يأتي من المعرض، بل يأتي من طبيعة الكتب الموجودة اليوم في المكتبة العربية، فالكتب الناجحة المشهورة التي يتداولها الناس هي كتب يميزها في الغالب أنها تكسر المحظورات الثقافية والتاريخية والاجتماعية التي فرضت علينا لفترة طويلة، ولا يشتري الناس الكتاب لأنهم ينتظرون جديدا بل لأنهم يريدون الشعور بنشوة كسر المحظور وليس لأنهم يريدون أن يتعلموا شيئا مختلفا.
أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي ينتهي هذا الشعور من العقل العربي، ينتهي من البحث عن المحظورات ويتجاوز هذا النوع من المشاعر ويبدأ في البحث عن القيمة الحقيقية للأفكار والمعلومات.
عندما تواجه الأمة العربية كل الأزمات التي نواجهها على كل الأصعدة، حين تكون التحديات من النوع الذي يتكرر نادرا عبر القرون، عندما نكون في آخر القطار وينتظرنا مشوار هائل، وعندما تكون المشكلات معقدة بشكل يقف أمامها العقلاء بحيرة وذهول، عندما نواجه كل هذا، فإن المؤكد أننا نحتاج كتبا من نوع آخر، كتب تساعدنا على مواجهة المشكلات وتبحث عن أجوبة للأسئلة وتتلمس طرقا تخرج بنا من الأزمة.
حتى تجاوز المحظورات نحتاجه بشكل مختلف.
لا نحتاج للكتب التي تتحدى المحظورات الاجتماعية والتي تتحدث عن الجنس والحياة تحت الأرض والأفكار النادرة فقط، بل نحتاج لكتب تمارس “التجديد” الفكري والثقافي والاجتماعي، كتب تستعرض الأفكار السائدة وتناقشها وتدعم الجيد منها وتطالب بتحديث الضعيف منها وإلغاء الأفكار الباطلة.
كتب لا تبحث عن الإثارة بقدر ما تستشعر عظم المهمة، وتناقش كل قضية بهدوء وتستعرض كل الخيارات وتناقش السيناريوهات والإيجابيات والسلبيات، وتبذل كل جهد إبداعي ممكن لطرح أفكار جديدة.
العالم يتجه نحو التخصص، ونحن نتجه للبعد عن التخصص، أرى “مثقفون” يكتبون اليوم في كل مجال، وذلك ليس لأنهم متطفلون، بل لأننا كلنا نعيش المشكلات نفسها، ولنا كلنا آراء في كيفية علاجها، والكل يريد أن يكتب رأيه في هذا الموضوع.
لكن لو كان الكاتب يعرف مقاييس العمق في طرح الأفكار، لابتعد عن الموضوعات التي يلامسها فقط ولا يحسن مناقشتها، ولبحث القراء عن الكتاب الذي يقدم حلا جديدا للمشكلات.
أنا أحلم بكتب عربية أفضل، ولكنني مطلع على المشكلات التي تمنع هذا.
الكاتب لدينا لا يجد المحفز لبذل الجهد الجبار، ودور النشر لا تستطيع بيع الكتب العميقة والجادة لجمهور لا يقرأ إلا ما يثيره، والمؤسسات الأكاديمية التي يفترض أن تكون المعمل الذي تخرج منه هذه الأفكار مشغولة بأساسيات العملية التعليمية وتلبية الاحتياجات الرئيسية وليس بالبحث العلمي أو تجديد الفكر.
لو كتبت كتابا لجعلته مثيرا، حتى أستطيع بيعه، وربما كانت لدي فكرة عميقة، ولكنني لا أجد سببا لبذل السنين في تأليفها.
العرس حق لمن يستحق الفرح فقط، والكتاب المميز حق لمن يقرأ ويفهم فقط !
لكن المعرض يبقى جميلا، لأن الغيث يبدأ بقطرة..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية