قد تقوم الدولة بوضع الأنظمة والقوانين التي تهدف للتطوير والإصلاح، ولكن هذا لا يكفي، فالمهم هو سلوكيات الأفراد التي ستطبق هذه القوانين، والتي تحتاج لعملية تغيير مكثفة وتعليم مستمر.
كان هذا مغزى مقالي في الأسبوع الماضي، وفي هذا الأسبوع سأتحدث عن واحد من الأمثلة الهامة التي تشرح هذا المفهوم، وهو حقوق الإنسان.
معظم الدراسات والمقالات والمطالبات الشعبية تركز على إيجاد قاعدة قانونية لحقوق الإنسان في الدول العربية، وهذا مطلب منطقي جدا، فبدون الإطار القانوني المطبق على الأرض لا يمكن تحقيق شيئ.
لكن هذا يمثل وجها واحدا من أوجه العملة، لأن الإطار القانوني لا يمكن أن يجد طريقه للنجاح إذا لم يتبناه عموم الناس ويؤمنوا به ويدافعوا عنه ويتألموا كثيرا لاختراقه من أحدهم.
حقوق الإنسان تحتاج لثقافة شعبية تحميها وتجعلها جزءا من اهتمامات الناس اليومية، ولا تكون فقط مسؤولية الدولة.
خذ مثلا حقوق الموظف والعامل، هذه الحقوق لها قوانين وآليات لحمايتها، ولكن هذه القوانين لن تجدي ثمارها إذا لم يتبن المجتمع هذه الحقوق، لأن المفروض أن تكون القوانين لحل المشكلات العويصة فقط وليس للعب لعبة القط والفأر مع الشركات والمدراء الذين ينتهكون هذه الحقوق كلما استطاعوا النجاة من قبضة القانون.
إذا لم يشعر الناس بالمسؤولية الأخلاقية لحماية حقوق العامل والموظف، بحيث يخجل المدير من مخالفة هذه المسؤولية ويضطر لمجاملتها حتى لو كانت ضد مصالحه، وبحيث تسعى الشركة دائما لإبراز صورتها الذهنية الإيجابية في هذا المجال، فلن ننجح أبدا في تحقيق هذا الأمر.
في الفترة الأخيرة دار نقاش في الصحف حول حقوق العامل الأجنبي والخدم والسائقين، ولما ركزت إحدى الكاتبات على هذه الحقوق وأهميتها، خرج لها من يقول بأن الخدم والسائقين هم من تجنوا على المجتمع ولا يستحقون أي حقوق مستشهدين بقصص جرائم كان الخدم والسائقين أطرافا فيها.
في هذه الردود تلمس فهما “منفعيا” لحقوق الإنسان من هؤلاء الكتاب، فإذا كانت الحقوق لنا آمنا بها، وإذا كانت لغيرنا وضد مصالحنا الشخصية، فهي مرفوضة علنا بلا تحفظ.
قد يكون بعض الخدم والسائقين مجرمين أو سيئين لأنهم خرجوا من طبقات فقيرة أو لأنهم يشعرون بالوحدة والأمراض النفسية في عملهم أو لأنهم يعانون من ضغط الأسرة التي يعملون لديها وعدم الثقة فيهم وقلة احترامهم أو لأنهم سيئين فعلا، ولكن هذا لا علاقة له بالأمر، فالحقوق ينبغي أن تكون ثقافة عامة لدى الجميع، وبحيث تمنح الحقوق للجميع كذلك، لأنه في اللحظة التي نفصل فيها القضايا على مقاس مصالحنا، تتحول الثوابت إلى متغيرات قابلة للنقاش والإهمال بعد ذلك.
عندما يتحدث الناس عن حرية الرأي، وتأتي الأنظمة الحكومية لتوجد مساحات من حرية الرأي للإعلام والأفراد، فلا يعقل بعد ذلك أن تأتي محاصرة حرية الرأي من عموم الناس، فيغضب كل شخص وكل رجل مشهور وكل شركة من الإعلام ويطالبوهم بالاحترام الكامل والاقتصار على المديح والثناء، بينما هم أنفسهم يطالبون بحرية الرأي عندما تكون في صالحهم فقط.
في موقع “العربية.نت” الذي أرأس تحريره، تجد كل يوم عشرات التعليقات التي تشتم الناس وتصادر كل حرياتهم في التعبير، ثم يقول في النهاية “أنشروا إن كنتم تؤمنون بحرية الرأي”، وكأن حرية التعبير حق محصور على الكاتب وحده.
بل إن تذهب للبيت والمدرسة والعمل، فستجد أقسى ديكتاتورية ممكنة، فكل يحاول منع الآخرين من نقده أو الاختلاف معه بما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى لو كان ذلك لمن يحبهم كزوجته وأولاده وتلاميذه وأصدقائه.
عندما يكون هذا الحال، فلا يمكن نشر ثقافة تؤيد حرية الرأي والتعددية الفكرية، حتى لو وجدت القوانين التي تدعم ذلك.
وأظن أن أوضح الأمثلة هي حقوق المرأة، فيمكن أن تكون هناك مئات القوانين التي تحمي المرأة من الاستغلال والظلم والعنصرية بأنواعها، ولكن التطبيق الحقيقي لهذه القوانين لن يكون ممكنا إذا لم يكن الإيمان بكرامة المرأة وشخصيتها وحقوقها جزءا من الثقافة العامة للمجتمع.
كيف نبني ثقافة تؤيد حقوق الإنسان؟
الأمر يحتاج في البداية لاقتناع من الناس بحقوق الإنسان واتفاق الأغلبية على المبادئ الأساسية.
إذا كانت الأغلبية من الناس ترفض هذه المبادئ أو تعتقد أنها تخالف الإسلام في بعض تفاصيلها، فعليهم أن يبحثوا عن مبادئ أخرى متناسبة معهم، ولكن بدون اتفاق الأغلبية والإيمان العميق بالمبادئ التي تم الاتفاق عليها، لن يمكن تحقيق شيء.
قلت لأحد رؤساء الهيئات الحكومية بأن موظفي الجهاز الذي يديره يرتكب أخطاء كثيرة في حق الناس تسيء للجهاز وتشوه سمعته، فكان رده بأن ما يفعلونه مخالف للأنظمة واللوائح، وهم يفعلون ما يمكنهم لملاحقة مخالفي الأنظمة.
هذا يعني أنه حتى داخل المؤسسة الواحدة، ومهما كان نظامها الإداري صارما، فإن الفكرة لا يمكن تطبيقها والمفاهيم لا يمكن تبنيها إذا لم يتبناها العاملون في المؤسسة ويؤمنون بها.
الأفكار لا يمكن تطبيقها إذا لم يقتنع أغلب المجتمع بها.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية