من يتأمل قوائم أسماء الحاضرين في المؤتمرات العربية بكافة أنواعها سيجد بعض الأسماء التي تتكرر كثيرا، وإذا كان الإيحاء الذي سيصل إليك أن هؤلاء هم النخبة العرب، فإن هذا غير صحيح، فبعض هؤلاء لا علاقة لهم بالنخبوية إلا بقدرتهم على حفظ أسماء الحاضرين “المميزين” الآخرين، مع قدرة على إعادة مجموعة مختارة من العبارات وطرح قائمة من القضايا “المثيرة” التي تتغير مع الزمن.
أما الذكي بين هؤلاء الحضور فلديه في الغالب “نظرية” معينة يكررها بطرق متعددة من خلال هذه المؤتمرات، بعد مقدمة إنشائية طويلة لا قيمة لها على الإطلاق سوى أنها تستهلك معظم الوقت.
بالمقابل، هناك نخبة حقيقية من الأكاديميين والمثقفين والمفكرين العرب الذين يعيشون في العالم العربي وخارجه ممن لم يملكوا الكثير من القدرات “التسويقية” فلا يدعوهم أحد، وإذا تبرع أحد بدعوتهم فهم يجلسون على الهامش لأنهم لا يملكون فن حضور المؤتمرات.
وأنا هنا لا أعمم هذه العبارات على كل من يحضرون المؤتمرات، فهناك ولا شك الكثيرون ممن لديهم دائما ما يقدمونه بإخلاص للجمهور الحاضر، وهناك من لا يرغب في الحضور ولكنه يدعى دائما للاستفادة من اسمه على قائمة المتحدثين، ولكنني أردت من خلال تلك المقدمة الإشارة لواقع المؤتمرات والندوات العربية، الثقافية منها والأكاديمية والمتخصصة وحتى السياسية والاقتصادية.
الحديث عن فعالية هذه المؤتمرات في رأيي مهم جدا، لأن المؤتمرات هي أحد أهم وسائل التطوير والنمو، وثانيا لأنه يتم إنفاق ميزانيات ضخمة على المؤتمرات بشكل عام، كما أنها تحولت في بعض المدن العربية مثل دبي وبيروت والقاهرة إلى قطاع تجاري مستقل لا يمكن تجاهله، حيث يقام المؤتمر أو المعرض أو الملتقى أو المنتدى أو القمة الواحد بعد الآخر، بتمويل الرعاة واشتراكات الحاضرين، ولا تجدها في النهاية إلا فرصة الحاضرين من المدن العربية الأخرى للاستمتاع بأجواء المدينة في المساء والأحاديث “على هامش المؤتمر”.
إن تقييم المؤتمرات العربية يأتي ببساطة من خلال النظر إلى أهدافها، إذا وجدت أهداف أصلا، فإذا كان الهدف هو تقديم جرعة مركزة حول الموضوع الذي يدور حوله المؤتمر أو الملتقى، فإن هذه الجرعة لا تتحقق بالتأكيد من خلال مجموعة من المتحدثين الإنشائيين الذين يعيدون كلماتهم نفسها في كل مؤتمر تقريبا خلال عدة سنوات، وإذا كان الهدف بناء علاقات مع المتخصصين في مجال معين بحيث يكون هناك تواصل بينهم، فإن المنتديات من هذا النوع لها طريقة أخرى واسعة الانتشار في الدول المتقدمة وتسمى “لقاءات التواصل” Networking Events، بحيث يتحقق هذا الهدف دون أن يضطر الحضور لابتكار وسائل بناء العلاقات الاجتماعية داخل المؤتمر وكأن كل شيء يتم عفويا وبدون قصد.
لقد حضرت خلال السنوات الماضية عددا كبيرا من المؤتمرات في عدد من الدول العربية، وهو أمر لا يفخر به أحد لأنه متاح لمن يملك فراغ الوقت وطول البال ويحب البوفيهات المفتوحة، ووصلت بعدها إلى قناعة إلى أن فرصا ثمينة تضيع بكل أسف، وأن مالا كثيرا ينفق بدون فائدة، وأن هذه المؤتمرات هي علامة أخرى على التخلف، ولكن كما يبدو فإن الكثيرين لا يبالون، لأنهم “يستمتعون” بوضعها الحالي على كل حال.
عندما يسألني الزملاء عن الحل أتحدث عن أهمية تحديد الأهداف، وعن أهمية أن تكون هناك لجنة لتحكيم الأعمال التي تشارك في هذه المؤتمرات _ وهذا مطبق أحيانا _ وعن أهمية أن تدفع التكاليف لدعوة الضيوف المميزين وليس لإقامة الولائم الفاخرة و”البرامج الجانبية”، وكل هذه الحلول التي لا تخفى على أحد، ولكن عددا من الذين حاولوا تطبيق ذلك في المؤتمرات التي يشرفون عليها عادوا بخفي حنين وذلك لأن الأوراق المقدمة للمؤتمر لا ترقى كلها للمستوى المطلوب، أي “لم ينجح أحد”، فإما أن نلغي المؤتمر أو نقيمه بالوضع الردئ المتاح.
أما لأؤلئك الذين يعشقون حضور المؤتمرات والاستفادة منها بحق، فأنصحهم بأن يجمعوا مالهم لحضور مؤتمر واحد فقط في مجال تخصصهم في أوروبا أو أمريكا، ويستغنوا بذلك عن الاستماع لساعات من الأحاديث التي لا تفيد أحدا إلا أولئك الذين يعانون من الأرق وعدم القدرة على النوم.
مرة أخرى، هذا الكلام لا ينطبق على كل المناسبات الثقافية والمتخصصة، وخاصة _ على سبيل المثال _ المؤتمرات الطبية التي فيها نسبة أعلى من التميز عادة.
أحد “الكليشات” التي تتكرر في المجالس بأن العرب لديهم مثقفين ومفكرين وباحثين “لم تتح لهم الفرصة” وقد شاركت في بعض لجان المؤتمرات وكانت النتيجة دائما مخيبة للآمال إلى حد أنني بدأت أشك كثيرا في هذه العبارة وصار عندي شعور _ ليس لي عليه دليل _ بأن ما يسمى بالباحثين والأكاديميين الموجودين في جامعاتنا هم في كثير من الأحيان مجرد “كتبة” لا أكثر ولا أقل.
أو أن الباحثين الحقيقيين قد عزفوا منذ زمن طويل عن المشاركة في جلسات المتعة المسماة بالمؤتمرات!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية