هناك حكمة عربية شهيرة تنص على أن “الطبع يغلب التطبع”، وهي تعكس رؤية عامة بأن جيناتنا الأصلية تمثل صفاتنا التي تغلب علينا، وأننا مهما حاولنا تغيير أنفسنا فهذه المحاولات تبوء بالفشل عادة.
جاءت العديد من الأبحاث العلمية لتدعم هذه النتيجة وتزيد من انتشارها في الأوساط الغربية كتلك التي رأت أن الجريمة تنتشر بشكل واسع في أبناء المجرمين، مما يعني أن الميول الإجرامي يرثه الشخص ولا تكون الجريمة بسبب ظروفه النفسية والاجتماعية، بالإضافة للأبحاث على التوائم التي رأت أن طباع التوائم في كثير من الأحيان تتشابه، مما يعني أن الجينات هي التي تحدد صفاتنا وطباعنا.
هذا الاتجاه متوافق مع الاتجاه العام في الثقافة العربية الذي يرى أن “العرق دساس” وأن الأصل له دوره كبير في تحديد أخلاق الإنسان.
بالمقابل هناك اتجاه علمي آخر بأن التربية والمجتمع من حولنا مسؤول عن كل صفاتنا، حتى أن أحد الباحثين حدد مدة 21 يوما كفترة كافية لتغيير أي طبع في حال بذل الإنسان جهدا كافيا لـ”التطبع” والتركيز على تغيير صفاته خلال هذه الأسابيع الثلاثة، وتنسحب هذه النتائج حسب الكثير من الأبحاث ليس فقط على الصفات السلوكية بل حتى على القدرات الإبداعية والذهنية، والتي نظر إليها في كثير من الأحيان على أنها موهبة وليست أمرا يمكن اكتسابه.
بل إن بعض الباحثين المتطرفين يقولون بأن صفات الذكورة والأنوثة تابعة لتأثير المجتمع علينا وليس للجينات أي أثر عليها، فالفتاة تكره الأعمال البدنية الشاقة وتميل إلى الرقة وتحب ألوانا معينة وأعمالا معينة لأن المجتمع أشار لها بذلك، ونفس الأمر ينطبق على الذكور.
هذا الاتجاه موجود في ثقافتنا في الأوساط الدينية التي تركز على دور التربية ودور الموعظة في تغيير الإنسان، وتتوقع أن الإنسان مهما حسنت تربيته قد ينجرف في أي لحظة إلى الفجور، وأن الإنسان مهما ساءت تربيته وحتى لو كان من أسرة لم تعرف الإسلام قط عبر أجيال كثيرة، فهو قد يدخل الإسلام ويحسن سلوكه واتجاهه.
ولعل من أجمل الدراسات التي اطلعت عليها وتحاول حسم هذا الجدل الطويل في العلوم الاجتماعية بشكل عام دراسة ركزت على دراسة التوائم المتشابهة الذين تربوا في أوساط اجتماعية مختلفة تماما.
في هذه الدراسة، عمل الباحثون على البحث عن التوائم المتشابهة التي انفصلت عند الولادة، غالبا بسبب تفكك الأسرة أو لأنهما ليسوا من آباء شرعيين فعاش أحد التوأمين في منزل وربما في مدينة مختلفة عن الحياة التي عاشها التوأم الآخر، وقرروا أنه من خلال الفحص الشامل للصفات الشخصية لكل من التوأمين سيمكن معرفة كم من الصفات التي يتوافق فيها التوأمان، وبالتالي هي صفات جينية، وكم من الصفات التي يختلفون فيها، وبالتالي هي صفات مكتسبة بسبب التربية، وكانت المفاجأة المذهلة لهذه الدراسة هي أن نسبة التوافق كانت عند أغلب التوائم الذين تم فحصهم عبر سنوات عديدة هي حوالي 40% بينما نسبة الاختلاف هي حوالي 60%، وعلى هذا قرر العلماء في أمريكا الذين أجروا الدراسة أن 40% من صفاتنا نرثها عن آبائنا، و60% من صفاتنا نكتسبها من حياتنا التي حولنا ومن التربية والأثر الاجتماعي والتعليمي علينا.
هذا يعني أن العناية بقضايا التربية والعناية بآثار البيئة التي حولنا علينا والتنبه لقضايا تأثير المجتمع والتعليم على الأطفال تبقى لها أهمية كبيرة لأنها تحدد النسبة الأعلى من صفاتنا، وهو اهتمام لم يبلغ أوجه في مجتمعاتنا العربية، بل إن إهمال الطفل والمراهقين سواء على صعيد الإعلام أو الثقافة أو التربية الأسرية أو المدارس، وخاصة من ناحية العناية بتنمية الصفات الشخصية الإيجابية ما زال سمة غالبة على الثقافة العربية.
إنني أشفق على الطفل العربي الذي لا يجد على قنوات الأطفال إلا أفلام الأكشن الكرتونية، بينما الأبوين في المنزل مشغولين عنه، وحتى لو قرروا الاهتمام به فإن الأدوات المتاحة لهم ليفعلوا ذلك تبقى محدودة جدا.
إن الذين يبحثون عن حل لمشكلاتنا ويحلمون بانتشالنا من تحت الركام لربما فاتهم أن هذا يبدأ من تغيير صفاتنا الشخصية السيئة والتي تساهم في كثير من التخلف الذي نعيشه، وهذا لن يمكن بدون جهود تربوية ضخمة ومكثفة ومنظمة ومخطط لها وتعرف ماذا تريد.
أكره لعن الظلام وأعشق إشعال الشموع، ولكن ما نحتاجه أكثر أن نعلم الناس منذ الصغر أن يكونوا شموعا تضيء الطريق أمامنا.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية