لا أظن أن أحدا يختلف معي في فكرة أن جزءا محوريا في الثقافة الشعبية السياسية المعاصرة في عالمنا العربي هي العلاقة مع “العدو”.
هذا لا يبدو غريبا لأن الضعيف دائما يعيش في حالة خوف من الانقضاض عليه من طرف القوي، ولكن ما يبدو غريبا لي هو أننا بالرغم من هذا القلق الدائم الظاهر في ثقافتنا العامة فإننا أيضا نسعى بشكل مستمر لاستفزاز العدو وإشعاره بكراهيتنا له ورفضنا لوجوده وكأننا نتمنى أن تأتي المعركة بأسرع وقت ممكن.
سألني صديق صحفي: لماذا تسعى الدول العظمى لتدمير العالم الإسلامي رغم أنه لا يبدو وكأنه يشكل الكثير من الخطر عليهم؟
كانت إجابتي لهذا الصديق: بأن من طبيعة الدول المتقدمة أن تستكشف وتجري الأبحاث والدراسات وتضع الخطط وتتوقع السيناريوهات، وعندما يكون جزء أساسي من خطابنا العام منذ الخمسينات الميلادية قائم على أحلام الفتوحات وأن نحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه وعلى الجهاد وعلى العداء لغير المسلمين، ويتسرب هذا الخطاب إلى النصوص السياسية والأدبية وإلى خطب الجمعة والفتاوى، فإن من الطبيعي جدا للدول الغربية أن تضع خططا استراتيجية لمواجهة هؤلاء القابعين في دول الشرق الذين يتحدثون ليل نهار عن “الحرب على الأعداء”، وخاصة أنه من الواضح جدا في هذا الخطاب أننا لا نفرق بين فئة وأخرى بل شعورنا السلبي يشمل الجميع بلا استثناء.
لأوضح وجهة نظري بشكل صريح، أنا لست ضد كل أنواع الخطاب التي تتحدث عن نشر الإسلام أو الاستعداد بالقوة لمواجهة الأخطار التي تأتي من الخارج، ولكنني ضد الخطاب الذي يتحدث عن الخلافة الإسلامية أو السيطرة على العالم بينما نحن نتمتع داخل العالم العربي بالضعف العلمي والاقتصادي وبأدنى مستويات التعليم والصحة والخدمات ونعيش فوضى من كل نوع وشكل.
وبعيدا عن هذا الرأي، فإن من يتحدث باستمرار عن الهجوم على الأعداء، لا بد له أن يتوقع أن يترجم “الأعداء” كلامه ويدركوا أبعاده ويستعدوا له وينفذوا خططهم.
كثيرون من الشباب العرب كانوا يظنون أن الأمريكيين يجتمعون كل يوم للتفكير في تدمير الإسلام والمسلمين والعرب، وكانت الوصايا دائما للطلبة المبتعثين إلى أمريكا _ ولك أن تلاحظ التناقض عندما تذهب للدراسة في بلد تكرهه _ بأن ينتبهوا من أن يتأثروا بالأعداء، وذلك في فترة كان يمكن خلالها بناء ثقافة إيجابية في فهم الغرب وبناء علاقة حضارية نستفيد فيها منهم ويستفيدوا منا بدلا من جو العداء الموجود حاليا.
لقد انتشرت بيننا ثقافة “العدو المتربص” بنا، مع تركيز خاص على الدول الغربية، وساهم الاتحاد السوفييتي السابق من خلال النخب العربية المرتبطة به في مراحل زمنية معينة من انتشار هذا الفكر بيننا، ثم تسرب هذا الفكر إلى الأوساط الإسلامية بعد أن كانت بعيدة عنه، تأمل كتب الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وغيرهم في تلك المرحلة تجدها نادرة ما تركز على العداء للغرب، وكانت صدمة كبيرة للغرب لما جاء برنارد لويس، ومراكز الدراسات في الجامعات الإسرائيلية وغيرهم وترجموا هذا الكلام لهم، ثم جاءت أحداث الإرهاب لتثبت لهم صحة هذه النظريات وبدأ التحرك الجاد لمواجهتها بكل أسف.
أحد أسباب المشكلة الأساسية أننا ربطنا بين إسرائيل والغرب، فقد فهمنا أن الدعم الغربي لإسرائيل يأتي لأن الغرب يجلس في نفق واحد مع إسرائيل، أو لأن اليهود يسيطرون على الغرب، وهذا خطأ بلا شك، وكل ما في الأمر أن أي تفكير استراتيجي مبسط يثبت للغربيين أن الوقوف مع إسرائيل أكثر جدوى من الوقوف مع العرب الذين يعانون من الفوضى وضياع الرؤية المستقبلية والتخبط السياسي وعدم الوفاء بالعهود والاتفاقيات، وأنا متأكد أنه لو لم نكن كذلك لقرر الغرب الوقوف معنا بدلا من إسرائيل.
أعرف أن القارئ بدأ يكرهني لأنني أصادم الكثير من البديهيات لشخص عربي، وأنا لا أنكر أن الغرب الآن يرهقنا بجهوده الرامية للتحكم في مسار العالم العربي والإسلامي، ولكن هدفي في المقال أن أشير بوضوح إلى أننا لو تصرفنا بشكل مختلف في العقود الماضية لما وصلت الأمور لما وصلت إليه الآن، وإلى أننا نحتاج إلى أن نفكر جديا في تغيير طريقة تفكيرنا إذا أردنا أن نردم الهوة ونعيد بناء علاقة إيجابية مع دول العالم الأخرى التي تفوقنا قوة وحضارة وسرعة سواء كانت هذه الدول في الشرق أو الغرب.
لا تستطيع أن تبدأ حربا لا تملك القوة لخوضها، وإلا كان هذا حمقا أصيلا، ومن الحمق كذلك أن تحول الناس إلى أعداء، ومن الحمق كذلك أن لا يكون لهذه العداوة معنى ولا فائدة، كما أن من الحمق ألا تخطط وتتوقع المستقبل، ونتائج ما تفعله أيدينا.
لا أطالب بشيء إلا برؤية أكثر نضجا وذكاء لعلاقة العرب مع العالم.
هذا أو سندفع الثمن!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية