في لحظات الصفاء مع الأصدقاء والأحباب، أو في ساعات السمر بعد يوم طويل وحاجة للأنس بمن ترتاح لهم النفس، يتردد الحوار ذهابا وعودة بين الجالسين، وتتغير وتيرة الحوار كل حين وآخر، بين العاطفية والعقلانية، وبين الحماس والبرود، وأحيانا تجد الحوار يميل إلى ضفة على حساب الأخرى، كما أنه أحيانا ينتقل من ذاتية المتحدث إلى الحديث عن الآخر الذي يستمتع بأصحابه يضفون عليه من محبتهم وثقتهم وربما طرائفهم.
بعض الأشخاص يتركون الحوار ليجري على وتيرته كما اتفق، وإذا مضى الحوار بشكل لا يرغبونه بادروا بالابتعاد عن هؤلاء الأشخاص الذين يسببون لهم “الصداع”، والبعض الآخر يصبر على الأذى ولا يبالي كثيرا بمستوى النقاش وبهجته، وآخرون يفكرون باستمرار كيف يستطيعون التأثير بشكل إيجابي على الحوار بجعله مرحا، ذكيا، مفيدا، ولطيفا، وهؤلاء مثل الذهب، يبحث عنهم الجميع، وهم زهرة المجالس والكل يعشقهم.
ما ذكرته سابقا بالرغم من كونه ملاحظات شخصية بديهية هي محور علم متخصص يدرس في عدد كبير من الجامعات الأمريكية معني بدراسة نظريات وظواهر وقوانين الاتصال ضمن المجموعات يسمى بعلم اتصال المجموعات الصغيرة Small Group Communication، وقد تلقى هذا العلم أهميته لأن الإنسان يقضي جزء جيد من يومه ضمن المجموعات الصغيرة، وخاصة في إطار العمل أو الأسرة أو مجموعات الأصدقاء.
حسب هذا العلم، فإن الحوار الذي يدور ضمن مجموعة صغيرة من الناس هو عبارة عن عملية تفاعلية يدخل فيها عدد من العناصر منها الطبيعة النفسية الخاصة لأعضاء المجموعة، والمهارات الاتصالية لكل فرد ومنها أهداف الحوار والمدى الزمني لتكون المجموعة ومدى تجانس ثقافة أفراد المجموعة وغير ذلك، وهذا كله يصنع تكوينا فريدا للمجموعة يميزها عن غيرها.
عدد من دراسات علم اتصال المجموعات الصغيرة ركز على قضية الصمت ضمن الحوار، متى يكون الصمت مناسبا ومتى لا يكون مناسبا، وإذا كان الجاحظ قد اعتبر الصمت زينة وخيرا كله في كتابه الرائع “البيان والتبيين” فإن العلماء الأمريكيين يرون أن الصمت أحيانا يسبب توترا حادا في التواصل، لأن هذا قد يوحي بالشك وعدم الثقة أو رغبة الشخص الصامت في الانعزال وعدم ارتياحه لأؤلئك الذين يعمل معهم.
من جهة أخرى، فإن الدراسات نفسها تؤكد أن كثرة الكلام تعرض الإنسان للكثير من الزلات، متوافقين في ذلك مع حكماء العرب، ويقول هؤلاء الباحثين بأن الناس في النهاية يصيبها شعور بأن كثير الكلام لديه نرجسية عالية تجعله معجبا بكلامه، وهذا يترك رد فعله السلبي على الذين يجالسونه عادة.
الحل هو توازن بين الصمت والكلام، وإذا كان السؤال الصعب هو كيفية تحقيق التوازن، فإن الإجابة بأنه سؤال يعيش الإنسان عمره وهو يتعلم إجابته، ويحتاج للكثير من التجارب والدروس، ولكن الإنسان الحكيم والمحبوب عادة هو إنسان تعلم عبر الأيام كيف يحقق هذا التوازن.
أما حوار العشاق فله قواعد أخرى، فالعاشق يتحدث قلبه وعيناه وملامح وجهه، وقد يدوم الصمت أحيانا بين العشاق لدقائق تمر سريعا لأن كلا منهما يقف عاجزا عن التعبير بالكلمات أمام فيض المشاعر الذي يجتاجهم لحظة اللقاء.
حوارات المحبين فيها اتصال رمزي لا لفظي مكثف، وإذا كانت الثرثرة تسيطر على جلسات المحبين فهي إما لإلهاء النفس عن العواطف التي تسبب في كثير من الأحيان الآلام والمتاعب أو لأن الحديث عن الحب يصبح أحيانا مملا عبر الأيام.
ولكن صمت المحبين قد يكون سيئا أحيانا.
أعرف شخصا هجرته حبيبته لأنه كان صموتا معها رغم أنني أعرف أنه ثرثار من طراز رفيع، والسبب أن المشاعر كانت تغمره وتعقد لسانه عن الكلام، بينما هي كانت تشعر بأن هذا الصمت حاصل لأن حاجزا ثلجيا يقف بينهما ثم شعرت بأنه شخص ممل وقررت أن تنطلق في مسيرة حياتها بعيدا عنه.
في مثل هذه الحالات لا يكون الصمت من ذهب أبدا، والصمت ليس من ذهب عندما يكون سببا في تعكير سمر الأصدقاء، ولا يكون من ذهب عندما يعجز الإنسان عن توضيح وجهة نظره ويساء فهمه لأنه لم يتحدث في الوقت المناسب، ولا يكون من ذهب عندما يفشل الإنسان في كسب الأصدقاء بسببه.
الصمت من ذهب عندما يتحدث القلب وتنطق العيون، والصمت من ذهب عندما يتعلم الإنسان أن من معه لا يريد سماعه، والصمت من ذهب عندما يكون الكلام بلا معنى.
بناء على هذا كله، أعلن منذ هذه اللحظة صمتي!!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية