التشجيع هو أحد أهم مظاهر كأس العالم، ولو راقبت من حولك أو استمعت للراديو لوجدت أشخاصا كثيرين ليس لهم أي علاقة بأمريكا اللاتينية أو حتى أوروبا، وقد اختاروا منتخبات وطنية من هناك ليشجعوها ويهتموا بها، أحيانا أكثر من اهتمامهم بمنتخباتهم الوطنية.
كيف يختار الشخص ناديا معينا ليشجعه؟
تقول الدراسات العلمية بأن هناك أسبابا عديدة لمثل هذه العواطف، منها تأثير الأسرة والأصدقاء والميل النفسي لرمز معين مرتبط بالفريق مثل لونه، أو لارتباط الفريق بمناسبة ما في الطفولة المبكرة، أو للانجذاب لنجم معين في الفريق، أو غير ذلك من الأسباب التي يتداولها الناس.
هذه الدراسات لم تهتم في البداية بتشجيع كرة القدم أو التشجيع الرياضي، بل اهتمت بظاهرة أكثر أهمية بكثير وهي اختيار الأحزاب التي يصوت لها الناس في الانتخابات الديمقراطية.
الديمقراطية مفهوم في منتهى الروعة، يصوت الناس بكل حرية لمن يمثلهم، ثم يجتمع هؤلاء المنتخبين بشكل مستمر لمناقشة مختلف القضايا، ساعيا كل منهم لطرح الرؤى والتصويت بما يتوافق مع مصالح واختيارات المجموعة التي اختارته وصوتت له، وبما يتوافق مع أجندته الانتخابية التي أعلنها قبل انتخابه.
لكن الأمر الذي بقي محل جدل كبير في العملية الديمقراطية هي في الحقيقة ما إذا كان الناس فعلا يصوتون للشخص بناء على أجندته الانتخابية أو بناء على عوامل عاطفية متعددة لا تختلف في جوهرها عن تلك التي تحكم المشجعين في اختيارهم للفرق التي يشجعونها.
هذه القضية الخطيرة التي أثبتتها مئات الدراسات العلمية الرصينة التي أجري أغلبها في أمريكا والقليل منها في أوروبا واليابان تعني أن دورة الديمقراطية لم تكتمل، وأن أناسا غير مؤهلين على الإطلاق في رأي أهل الخبرة أو الأكاديميين، وأشخاصا لا يستطيعون إدارة حياتهم اليومية فضلا عن إدارة دولة ضخمة مثل أمريكا يصلون للحكم بسبب وسامتهم أو قدرتهم على الحديث الجذاب أو لأن الحزب الذي ينتمون إليهم قد كسب قلوب الجماهير من قبل، والتي انقادت للتصويت وراء الحزب ومرشحه أيا كان.
الدراسات السياسية الأمريكية وأشهرها دراسات مركز البحوث الاجتماعية بجامعة “ميشجين” ومركز الاتصال السياسي بجامعة “أكلاهوما” وغيرها، تذكر عددا من الأسباب تجعل الأشخاص يختارون حزبا معينا أهمها تأثير الأسرة والوسط المحيط بالشخص وأقلها ميوله الأيديولوجية، ولكن هذا يشمل حوالي 80% من الناخبين الأمريكيين، بينما هناك حوالي 20% من الناخبين والذين يسمون بـ”المترددين” undecided، وهؤلاء عادة ينتظرون الحملات الانتخابية ويراقبون القضايا ويفكرون في المرشح الأفضل، وهؤلاء هم الذين يراهن عليهم معظم المرشحين في حملاتهم الانتخابية.
بمعنى آخر، القضايا والمواقف والآراء لا تعني شيئا لنسبة عالية من الناس، بينما البعد العاطفي هو الذي يتحكم بهم، وهذا طبعا يؤثر بحدة على أداء السياسيين في الأنظمة الانتخابية، والذين يصبح كل اهتمامهم هو “الصورة الذهنية” image، ويصبح لمهندسي الصورة الذهنية في الفريق العامل مع رئيس الدولة أو عضو الكونجرس الأهمية العليا في القرارات.
الحال نفسه في تصوري موجود في العالم العربي، وخاصة مع انتشار الجهل وضعف الحلول المطروحة لقضايانا المستعصية، والدراسات _ التي لم توجد بعد _ ستوضح الأبعاد التفصيلية لهذه الظاهرة، وهي كثيرة بالطبع.
هناك ظاهرة أخرى يذكرنا بها التشجيع وهي أن الإنسان يعشق الانتماء إلى مجموعة ما إلى درجة أن هذا شرط لتحقيق ذاتيته من الناحية النفسية، ولذلك اعتبرت أحد الحقوق الهامة على قائمة حقوق الإنسان، والأحزاب السياسية هي من أهم أساليب تحقيق الانتماء، ولكن عند عدم توفر الأحزاب السياسية أو في حال ضعف جاذبيتها لجمهور الشباب _ كما هو الحال في أوروبا _ فإن النوادي تصبح بديلا يحقق للإنسان الانتماء، ويصبح التشجيع تعبيرا عن هذا الانتماء.
لماذا إذن الحديث عن الديمقراطية إذا كانت ناقصة بهذا الشكل حسب رأي كل المتخصصين الغربيين في هذا المجال بلا استثناء؟
باختصار لأن الغرب لم يجد حلا أفضل!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية