الفرق بين النقد الذاتي و«جلد الذات»

من قسم منوعات
الجمعة 27 أكتوبر 2006|

في عدد من المقالات الأخيرة التي نشرتها في هذه الصفحة، كنت على ما يبدو “قاسيا” في الحديث عن المشكلات التي يعاني منها العرب والمسلمون، وانتقد البعض ذلك بأن هذا من باب “جلد الذات” كما انتقدها آخرون بأنها تعمم النقد بينما هناك حالات استثنائية.

عندما نقول نحن متخلفون اقتصاديا وعلميا، فإنني بذلك أهمل محاولات جادة على مستوى بعض الأفراد والمؤسسات والحكومات لتجاوز هذا التخلف وبعض قصص النجاح التي تم تحقيقها على هذا الصعيد.

أعتقد أن مناقشة هذه الحجج أمر هام جدا لأنها تواجه الكثير من محاولات النقد الذاتي التي تبذل هنا وهناك، كما تواجه أولئك الشعراء والروائيين والفنانين الذين يركزون على نقاط الضعف ويبكون على حالنا عندما يقارنونه بحال الأمم الأخرى أو يقارنونه بحالنا عبر التاريخ أو عندما يبدؤون بإحصاء الضحايا بين قتيل وأسير وجريح!

وأنا هنا لن أسعى لإثبات أهمية “النقد الذاتي” فهذا أمر تجاوزه الناس منذ زمن بعيد، فبدون البحث عن المشكلة وتحريرها وتحديد معالمها وحدودها وتفاصيلها ومناقشة الأدلة والحقائق المرتبطة بها، يصعب جدا التخطيط لعلاج المشكلة، وإذا كنا نتحدث عن وضع شديد القتامة وشديد التعقيد في آن واحد مثل الوضع الذي تعانيه معظم الدول العربية والإسلامية من تخلف على مختلف الأصعدة وحاجة هائلة لإصلاح شامل، فإن هذا يعني أننا نحتاج لـ”نهر جار” من النقد الذاتي الذي يسعى لتحديد المشكلات ومعالجتها.

بعبارة أخرى؛ نحن لا نحتاج فقط لنقد الذات بل نحتاج لما سأسميه بـ”إنعاش الذات” لأن ما نعانيه لا يحتاج مجرد نقد بل يحتاج لغرفة عناية مركزة لمنع المريض من الموت ووضع كل الإمكانيات اللازمة التي تؤمن له أن يصل إلى شاطئ النجاة، أو سأسميه بـ”إنقاذ الذات” لأن الضحية على وشك الغرق وتحتاج لعملية إنقاذ سريعة وحيوية لعلها تنقذ ما يمكن إنقاذه.

أعرف تماما أن حياتنا اليومية ليست قاتمة، فكثير من العرب ينعم بحياة جميلة كل يوم ويلقى ما يحتاجه من عناية، وما يلزمه من صحة وغذاء، وينعم بالضحك والخير الوفير، ولكن هذا ليس مبررا للتوقف عن نقد الذات، بل هو في الحقيقة السبب الرئيسي لأن يأتي الكتاب والفنانون والأدباء فيمارسون “الوخز الحاد” حتى نصحو من سبات النوم ونرى الحقيقة كاملة بدلا من أن نرى ما يحدث عند أصابع أقدامنا فقط.

إن الحقيقة مرة، وتثبتها الأرقام كما تثبتها كل نشرة أخبار عربية بلا استثناء، ولم نصل لهذا الوضع الغريب إلا لأسباب نحتاج لأن نعرفها ونحللها حتى نستطيع أن نعالجها.

أما “جلد الذات” فهو مسألة أخرى، جلد الذات مرتبط بالمبالغة في النقد وتقدير النتائج حتى يصبح شبيها بالمرأة التي تشتكي زوجها العظيم لأنه عظيم وليس إنسانا عاديا.

هذا ينطبق مثلا على المفكرين الغربيين الذين يهاجمون حضارة الغرب ويقولون بأنها على وشك الانهيار لأنها بالتركيز على التكنولوجيا والاقتصاد حرمت الإنسان من ممارسة إنسانيته وبساطته وجعلته معقدا مهتما بمصالحه أكثر من اللازم.

ومع ذلك، فأنا أحبذ دائما جرعة من “جلد الذات” حتى يرى الناس دائما الآثار السلبية لما يفعلونه حتى لو كان ما يفعلونه مميزا ورائعا، لعلهم في المستقبل يجدون وسيلة لتجنب هذه الآثار.

لا بأس مثلا في بعض الأحيان أن يمارس الشخص جلد الذات ويقول بأن النمو السريع لدبي حرم المدينة من أمور كثيرة يحتاجها الإنسان في مدينة عادية.

أما مشكلة التعميم فهي مشكلة صحيحة تعاني منها الكثير من مقالات “النقد الذاتي” وذلك في الغالب لأمرين:

  • الأول، تجنب الكاتب عند ممارسة الوخز أن يطعن شخصا بعينه أو مجموعة من الناس بعينها، على طريقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عندما كان يقول “ما بال أقوام..”.
  • والثاني، لأن المساحة مخصصة للنقد الذاتي وليس للحديث عن قصص النجاح والاستثناءات، وللحديث عن المشكلة وليس عن أطراف المشكلة ومن يعاني منها أو لا يعاني منها.

بكلمات أخرى، الكاتب لا يريد نشر تقرير متكامل عن المشكلة وأطرافها بل يريد فقط “الإنعاش” لأن هناك مشكلات خطيرة يعاني منها الجسد المريض المهترئ.

معظم ما في الصحافة والأدب والفن في عالمنا العربي يتحدث عن أمجادنا وصفحاتنا البيضاء ويتجاوز هذا أحيانا الحقيقة ليصل لحد التنويم المغناطيسي للجمهور حتى يشعر أنه في خير عظيم، ولا بأس بعد هذا كله من وخزات إيقاظ أو لمسات إنعاش، لعلها تساهم يوما في حل المشكلة..

قلت لعلها، ولا أظن أن هذا سيحصل!!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية