عندما ظهر مصطلح الاقتصاد الجديد New Economy في أواخر التسعينات الميلادية، كان يعكس حالة الطفرة الخاصة في شركات الإنترنت التي عاشتها الأسواق المالية الأمريكية في ذلك الوقت.
رأي بعض كبار المفكرين الاقتصاديين في هذه الطفرة مؤشرا على التحول من “الاقتصاد الصناعي” إلى “الاقتصاد المعرفي”، أو بكلمات أخرى التحول من الاعتماد على الإنتاج في الاقتصاد إلى الاعتماد على الخبرة النادرة، وتحويل هذه الخبرة إلى عامل اقتصادي مسيطر.
لما انهارت الكثير من شركات الإنترنت، لم ينهار “الاقتصاد الجديد” كمبدأ وأفكار، وذلك لأنه كمفهوم يعكس حالة العولمة، فالشركات الكبرى أدركت أثناء اجتماعاتها الاستراتيجية أن الهند والصين والدول الأخرى التي تتميز بانخفاض تكلفة العمالة ستسيطر على الإنتاج، بما في ذلك إنتاج الأجهزة التكنولوجية، وأن هذه الدول ستعالج عبر السنوات مشكلة “الجودة والنوعية” التي تعاني منها حاليا، وبالتالي ستتمكن من طرح السلع بأقل الأسعار تاركة دولا مثل اليابان وأمريكا وأوروبا الغربية في “حيص بيص”.
الحل كما طرحته تلك الشركات في الدول المتقدمة هو التركيز على ما لا يملكه أحد غيرها، القدرة الهائلة على التسويق وخلق العلامات التجارية branding، وعلى صناعة الأفكار، وعلى المعرفة التكنولوجية الدقيقة التي تحتاج لما يملكه الغرب واليابان من مختبرات ومراكز أبحاث وعلماء، وعلى الأنظمة الإدارية بالإضافة طبعا للاستفادة من أسواق الإنتاج في آسيا من خلال الاستثمار المباشر في هذه الأسواق.
بالنسبة لنا في الدول العربية، التحدي مختلف جدا، فنحن لسنا دول إنتاجية لأسباب عديدة بما فيها اختلاف التركيبة السكانية وحداثة عهدنا بالاقتصاد الإنتاجي، كما أننا لسنا “دول خبرة” ولا نملك مقومات “الاقتصاد المعرفي” ولذا ففي تصوري، يمكننا دخول التركيبة الاقتصادية من خلال عاملين مهمين:
- الأول: هو الاستثمار المباشر في الاقتصاد الإنتاجي في آسيا والاقتصاد المعرفي في الغرب واليابان، والمشكلة في استثماراتنا المباشرة أنها عشوائية غير منظمة تقوم بشكل بحت على الفرص التي تتاح لرجال الأعمال، وقد يوفق بعضهم بينما يتعرض آخرون للنصب بشكل أو بآخر.
إن وجود آلية مركزية خفية تنظم استثمارات رجال الأعمال بما يخدم مصالحهم ومغامراتهم التجارية وفي نفس الوقت توفر للدولة وجودا واسعا ومتنوعا في اقتصاديات عديدة يبدو وكأنه ضرورة لا بد منها.
- الثاني: هو التركيز على صناعة الأفكار الجديدة، فالأفكار والإبداع هو الجزء الوحيد من الخبرة الذي يمكن لأي بناء اقتصادي أن يساهم فيه مهما كان هشا أو ضعيفا.
لن يمكننا المنافسة في مجال المعلومات أو الدراسات أو التسويق أو شبكات التوزيع أو الأنظمة الإدارية، ولكن يمكننا دائما أن ننتج أفكار جديدة تكون وقودا يوميا للاقتصاد الإنتاجي والاقتصاد المعرفي على حد سواء.
لكن تحقيق الأمر الثاني ليس سهلا، وهذا لا يخفى على أحد في رأيي، فصناعة الأفكار لا تتم فقط من خلال تشجيع الموهوبين، بل يحتاج لبيئة مميزة يتكامل فيها دور المدرسة مع المنزل مع المؤسسات الحكومية مع القطاع الخيري الداعم والقطاع الخاص المنفذ بحيث تصبح الفكرة الجديدة أمرا مقدسا وبحيث يكون المنتج النهائي سيلا من الأفكار idea streams أو خط إنتاج مخرجاته هي الأفكار.
أظن أنه قد حان الأوان لتأسيس “الهيئة الوطنية لتشجيع الإبداع”.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية