يزور دبي كل يوم أعداد كبيرة من السعوديين القادمين من الرياض وجدة، وكثير من هؤلاء عندما ينتقل الحديث به ليقدم انطباعاته عن دبي تسمع نقدا حادا للرياض ومدحا عظيما لدبي، تعداد لمزايا المدينة المستضيفة وتعداد لعيوب المدينة الأم.
في البداية قد يخيل لك أن الأمر لا يزيد عن مجرد انطباعات سائح منبهر بتنظيم وجمال المدينة، ولكن تكرار الأمر يؤكد أن هناك شعورا نفسيا عميقا خلف هذا المدح المستفيض وهذا النقد المتشدد، ولا تملك إلا أن تحاول فهم هذا الشعور.
ولعل الغريب أن كثيرا من زوار المدينة من الجنسيات العربية والخليجية الأخرى لا يدخلون في نفس المقارنات، بل ويؤكدون دائما على شوقهم لمدينتهم ولا يصدقون متى يعودون من زيارات العمل السريعة التي يقومون بها لدبي.
إن النظرة الموضوعية للأمور تؤكد أن هناك مزايا للرياض لا تتواجد في دبي، وهناك مزايا لدبي لا تتواجد في الرياض، شأن كل المدن الحيوية التي تنمو فتتقن أمورا وتضعف في أمور أخرى.
بل إن كثيرا من المقارنات الاقتصادية البحتة هي لصالح الرياض وليس دبي، وذلك لأن كثيرا من الناس ينسون مقارنة الإنجازات بحجمها الاقتصادي الحقيقي _ وليس حجمها الإعلامي _ وينسون مقارنة الإنجازات بحجم المدينة، فالرياض مسؤولة عن تطوير المملكة العربية السعودية بحجمها العملاق وإمكانياتها الضخمة وتحدياتها الكبيرة كذلك، والرياض نفسها مدينة كبيرة كذلك تنمو بسرعة غير عادية، وما تحتاجه الرياض يفوق مرات عديدة ما تحتاجه دبي، وهذا يعني ضخامة التحدي، والذي يتطلب الانتباه له عند مقارنة الإنجازات.
لكن السعوديون يصرون على نسيان هذا عندما يقارنون، والسبب في رأيي هذا الشعور الوطني العميق الذي يريد للمدينة الأم أن تكون الأفضل في كل شيء، ويؤلمهم أن يتقدم عليهم أحد في أي جانب من الجوانب.
هناك عشق للرياض يتغلغل في شرايين أبناء المدينة، وهناك فخر دفين بموارد المدينة وقدرات مواطنيها، وبما حققته من إنجازات، وهذا الفخر لا يرضى أن يرى مدينة أخرى تتقدم على الرياض في السباق.
هناك سبب آخر ومهم أيضا، وهو أن معظم الناس لا يتاح لهم معرفة كواليس صناعة القرار في السعودية، ولا يرون الكثير من الإنجازات بسبب ضعف إدارات العلاقات العامة الحكومية _ مقارنة بدبي _ وتغيب عنهم التحديات بسبب تهرب المسؤولين من الحديث عنها.
خذ مثلا الحكومة الإلكترونية، كل الناس تسمع بدبي كنموذج للحكومة الإلكترونية، ولكن استعراضا دقيقا للجهود التي تبذل في المملكة في هذا الإطار يرى جهودا جبارة تفوق في حجمها وطموحها ما هو موجود في دبي بمرات عديدة، ولكن الإنجاز أقل طبعا، لأن تحويل المملكة للعصر الرقمي تحد هو الأكبر عربيا من الناحية الإجرائية والاقتصادية بعد دولة مصر التي ما زالت في أول خطوات المشوار.
الكثير من السعوديين الذين ينتقدون لديهم بحسهم الوطني تساؤلات واقتراحات وآراء بعضها جميل جدا، لكن وسيلة توصيل هذه الاقتراحات والحصول على الإجابات ما زالت شبه غائبة لمعظم الناس.
أحدهم كان يقول لو أن الرياض أقامت على حوافها الشمالية أو الغربية بحيرة صناعية مثل البحيرة الموجودة في الشارقة أو غيرها من المدن لمثلت متنفسا سياحيا لأهل المدينة وساهمت في تقليل الجفاف وتحسين الجو.
بعدها جلسنا نفكر كيف يمكن أن نوصل هذا الاقتراح لصناع القرار.
هناك حل منتشر في عدد من الدول الغربية لهذه المشكلة، وأعني بذلك مشكلة ضعف مشاركة المواطن في إبداء الرأي، وضعف التواصل بين المسؤولين وسكان المدينة، وهذا الحل يسمى “القاعدة المدنية” أو City Halls.
في هذه القاعات يجتمع الناس في أيام الإجازة الأسبوعية، يحضرون بملابس عادية مع أفراد أسرتهم بلا أي تكلف، ويتحدثون ويتحاورون حول كل القضايا بدءا من القضايا الوطنية الكبرى وانتهاء بالحاجة إلى تبديل الأنوار في أحد حارات المدينة.
يحضر هذه الجلسات مسؤولون عديدون من المدينة ويتحدثون مع الناس يجيبون على أسئلتهم، يشرحون لهم المشكلات التي يواجهونها، ويستمعون للأفكار التي تصلهم.
هذا التطبيق المميز في رأيي له مزايا كثيرة لمجتمعاتنا، بما في ذلك إعطاء الفرصة للمسؤول للدفاع عن نفسه، وإعطاء الفرصة للناس للسؤال وتقديم الأفكار، وفي نفس الوقت إقامة الحجة على المسؤول الذي يعرف أنه سيواجه الناس وتساؤلاتهم، وأخيرا تحويل المدينة إلى “مدينة إبداعية” تبحث عن الأفكار وتسعى لعلاج المشكلات وتخرج كل أسبوع برصيد من الإجابات، وهذا كله من شأنه ولا شك أن يزيد الروح الوطنية وارتباط الناس بمدنهم.
أظن أن هذه المهمة ليست صعبة، وخاصة مع التشجيع الواضح للحوار وتبادل الآراء السائد حاليا في المملكة، ولذا فقد يستطيع مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني تطبيق الفكرة، كما قد يتبناها مجلس الشورى، الذي أبدى مرارا الرغبة في سماع أفكار الناس ومشكلاتهم.
لا نريد مناسبات إعلامية ولا تنظيما رسميا ولا ولائم ولا “تشخيص”، فقط قاعة محاضرات تمتلأ على آخرها بأشخاص عاديين يحبون وطنهم ولديهم ما يقولونه، وصناع قرار لديهم إجابات يقودون الحوار ويبحثون عن الأفكار ويشرحون القضايا، لعل ذلك يخفف من سوء الفهم القائم بين المدينة العظيمة وأبناءها العشاق في الخفاء!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية