قبل أن يستعجل أحد في الهجوم علي بسبب العنوان، ويكتب خطبته النقدية العصماء قبل أن يأخذ دقيقتين لقراءة المقال، أحب أن أشرح لمن وقتهم مشغول بالنقد عن القراءة أن المقال لا يهدف للهجوم على “أسلمة المعرفة” ولا على الفتوى، بل يقترح أسلوبا مختلفا عن الأسلوب الذي طرح مع المصطلح مبنى على أسس البحث العلمي المنتشرة في مختلف جامعات العالم، وذلك للوصول إلى الهدف ذاته، وهو تنقية العلوم مما يخالف أصول الإسلام ومبادئه، كما يقترح الاستفادة من أسس البحث العلمي نفسها في تطوير الفقه الإسلامي وما ينبني عليه من فتاوى، وهو أمر كان يجب أن يحصل منذ زمن بعيد لولا جمود الكثير من أقسام الدراسات الشرعية في الجامعات الإسلامية وبعدها عن النظر في التطورات العلمية الحديثة.
تقوم مبادئ البحث العلمي على البحث عن مشكلة معينة أو سؤال يحتاج لإجابة ثم جمع المعلومات بطريقة موضوعية بعيدة عن رؤية الباحث الشخصية بأساليب متعددة ومن ثم تحليل هذه المعلومات والخروج بنتائج تجيب على السؤال ويعتمد عليها في الأبحاث اللاحقة.
بناء على هذه المبادئ، تطورت علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والأنثربولوجيا والإعلام ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، وهذه المبادئ ليست اختراع غربي بحت، بل كان للعرب شرف البدء في تأسيس هذه العلوم، حتى جاء الغربيون فأمسكوا بزمام الحضارة ليستمروا في التطوير، ولو كان العرب في المقعد الحضاري الأمامي نفسه لوصلوا لنفس المناهج لأنهم انطلقوا من نفس المبادئ، مع وجود اختلافات طفيفة لا تؤثر على المنهج الرئيسي.
هذه المبادئ هي التي يجب أن يعتمد عليها علم الفقه الإسلامي في الاجتهاد بشأن كل القضايا التي تخص الإنسان، حيث نرى عددا كبيرا من الفتاوى التي تعتمد على اجتهاد المفتي من خلال خبرته الشخصية فيما يتعلق بنفسية الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، فالمفتي يحدد مثلا ما الذي يسبب الفتنة للمسلم، وما الذي يثير شهوته، وما الذي يصلح العلاقة الزوجية، وما الذي يصلح الشؤون الاقتصادية والسياسية للدولة.
وأنا هنا لا أتحدث عن الاجتهاد بشأن النص الشرعي، فهذا أمر يقوم به طلبة العلم الشرعي دون غيرهم، ولكن أتحدث عن الجوانب الدنيوية التي ينطلق فيها المجتهد من تجربته الحياتية بدلا من الاستناد للمتخصصين في علم النفس والاجتماع والعلاقات الأسرية والاقتصاد والسياسة، والذين يفترض طبعا _ حتى لا تتكرر المشكلة _ ألا يستندوا على رؤاهم الشخصية بل على أطر البحث العلمي للوصول لنتائج يستند عليها في الوصول للفتوى الشرعية.
إنني أدعي أن هذه الفجوة بين الفتوى الشرعية والدراسات العلمية ساهمت بشكل حاد في تناقض الفتاوى وتغيرها عبر الزمن، وتناقضها أحيانا مع ما تقوله العلوم الأخرى، فيقع الناس في حيص بيص، وتجاذب مزعج بين العلم الشرعي الذي يحترمونه وبين العلوم التي تلاصق حياتهم.
إن الأمثلة التي يمكن طرحها على هذه المشكلات تملأ كتابا كاملا، ولولا خوفي من الوقوع في مأزق الحكم على الأمثلة لذكرت بعضها، ولكن بعد أن تقرأ سطوري وتنتبه للآراء الشرعية ستجد فيها الكثير من الاجتهاد الذي يبذل فيه العالم جهده من أمور الدنيا، بل فيها بعض الأمور الطبية والهندسية التي يفترض ألا يفكر العالم في الاقتراب من حدودها.
الكثير من العلماء الكبار يدرك هذه المشكلة، ويدرك أن تجربته الشخصية لا تسمح له بتحديد ميول الإنسان اليومية فيلجأ للأخذ بالأحوط، وهو مبدأ جميل إلا أن التوسع فيه سبب لنا مشكلة كبيرة وصار عبئا على الناس، وحتى تتخيل المشكلة، تخيل لو أراد الإنسان العادي الأخذ بالأحوط فيما يتعلق بأمنه وأمن أسرته الشخصي، ستجد أن حياتهم انقلبت جحيما لأنه سيقفل كل الأبواب ويمنع كل الحركة خارج المنزل، وسيمنع الكثير من الأشياء داخل المنزل، ونحن لا نفعل ذلك عادة لأننا نقدر من خلال تجاربنا الشخصية الأمر النادر فلا نحتاط له والأمر المنتشر فنحتاط له، وهو الأمر نفسه الذي ينبغي أن يطبق في الفتوى الشرعية لو اعتمدت على الدراسات الإحصائية، فقدرت ما هو منتشر من الحالات واحتاطت له دون التضييق على الناس من أجل احتمالات ضعيف إمكانية حصولها.
إنني أجد دعما لما أطالب به في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، ليعلن عليه الصلاة والسلام، الفصل بين الرأي المبني على الوحي المنزل من عند الله عز وجل، وبين شؤون الدنيا التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، برأيه في قصة الحديث، حيث تناول شأنا من شؤون الزراعة ثم ثبت خطأه لاحقا، فقال صلى الله عليه وسلم، قولته لتكون درسا لكل مجتهد في الشريعة أن يبتعد عن الاجتهاد في أمور الدنيا.
لقد وقع الذين يدعمون فكرة “أسلمة المعرفة” في المشكلة نفسها عندما بذلوا الجهود الجبارة لتنقية العلوم الاجتماعية والإنسانية من كل ما رأوه مخالفا للشريعة، بدلا من أن يتخذوا المناهج العلمية السائدة، وهو في رأيي أسلوب خاطئ تماما.
كان يفترض في علماء النفس المسلمين _ على سبيل المثال _ بدلا من أن يرفضوا نظريات فرويد على أسس دينية، أن ينطلقوا من نفس المنطلقات العلمية وبنفس المناهج ويثبتوا خطأها، وهو الأمر الذي فعله لاحقا عدد من العلماء الأوروبيين والأمريكيين.
لو قامت جهود “أسلمة المعرفة” على الأسس العلمية لتسربت نتائج هذه الدراسات للتراث العلمي العالمي، ولتطورت أقسام الدراسات الاجتماعية من الناحية العلمية، ولكانت الثمرة أكبر بكثير من مجرد الاستناد للمبادئ الفكرية والأيديولوجية في “حذف ما لا نراه مناسبا” من النتائج والنظريات العلمية.
إنني أشعر بالحزن لما أرى الرسائل العلمية المكدسة في مكتبات الجامعات، وكثير من المتخصص منها في العلوم الشرعية يتناول بالتحقيق مخطوطة قديمة أو يراجع مسألة تم التفصيل فيها بشكل واسع، بينما هناك مئات القضايا التي نحتاج فيها لجهود طلبة العلم الشرعي والدراسات العليا في تحليلها وتحقيقها، ويحزنني أكثر عندما أرى طالب الشريعة جاهلا بأصول البحث العلمي ومبادئه، وأتمنى لو أرى اليوم الذي تصبح فيه مبادئ البحث الكمية والكيفية أساسا في تناول شؤون الدنيا وتطوير المعرفة بدلا من الرأي المحض.
إذا كنت ما زلت مصرا على رفض المقال على أساس أنه “مخالف للإسلام”، فأطلب منك فقط أن تقرأه مرة أخرى، لعلك تغير رأيك وتعفو، فرمضان كريم!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية