انتقل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى رحمة الله، وكالعادة العربية المعروفة، امتلأت وسائل الإعلام وألسنة الناس بالمدائح والمراثي والترحم على الرئيس الراحل من باب ذكر “محاسن موتاكم”، أو من باب الإيمان بما قدمه أبو عمار عبر عقود من الزمن للقضية الفلسطينية.
ولكن لو تأملنا قليلا ما كتبه الناس، لوجدنا أن المديح وذكر المآثر متركز على المرحلة “النضالية” في حياة ياسر عرفات، مرحلة فتح ومنظمة التحرير والعمل الدؤوب في الخارج على طرح القضية الفلسطينية وتكوينها وتكوين المؤسسات المرتبطة بها وطرح الحلول لها _ كما رآها أبوعمار وأصحابه _ بينما تجاهلت هذه الكتابات فترة حياته كرئيس وحاكم للفلسطينيين بعد اتفاقيات السلام مع إسرائيل وعودته لفلسطين.
لقد كان ياسر عرفات، ثوريا متميزا، عرف كيف يشكل قضيته، ويركز على محاورها الأساسية، وعرف كيف يوصل رسالته، وعرف كيف يصبح الخيار الوحيد للحديث حول هذه القضية، وكيف يحصل على المال والدعم المعنوي الذي يضمن له الاستمرار.
لكن عرفات _ رحمه الله _ كان فاشلا عندما أصبح رئيسا وصانع قرار لأن لم يعرف كيف ينزع ملابسه الثورية والنضالية ويلبس ثياب رجل الدولة الذي يبني النظام السياسي والإداري والاقتصادي، ويعالج مشكلات الناس اليومية في الداخل ويذهب للخارج كرئيس لشعب وليس كثائر ومدافع عن قضية.
في الحقيقة، يبدو أن ياسر عرفات، لم يصدق يوما أنه أصبح رئيسا منتخبا، ومات بعد سنوات طويلة من الحكم، دون أن يقدم شيئا يذكر على مستوى بناء الدولة ومعالجة مشكلات الفلسطينيين، ربما لأنها لم تكن يوما بحجم أحلامه، وظل يركض وراء حلمه في الدولة المستقلة، متناسيا ما بين يديه، الأمر الذي دمر شعبيته يوما بعد يوم لدى العرب وعند أصدقاءه الأوروبيين وغيرهم من زعماء العالم، حتى صار في النهاية ينظر له على أنه زعيم حكومة فاسدة فاشلة لا يمكن الاعتماد عليها، وأنه صاحب خطابات ووعود يلقيها كيفما اتفق دون أن يحسب حسابا لأبعادها.
وفي الحقيقة لا يمكنك أن تلوم عرفات، على فشله كرئيس، لأنه من الصعب جدا أن يخلع زعيم ما ثوب النضال وآليته في العمل اليومي القائمة على “الخطاب” ويلبس ثباب رئيس الدولة والمدير الناجح الذي يحل المشكلات العضال، ومن الصعب جدا أن يترك زعيم ثوري طريقة حياة الثوريين وبساطتها وما فيها من شعبية جماهيرية وينتقل للطرف الآخر في العمل السياسي.
لقد كانت هذه المشكلة أحد أهم المشكلات التي جعلت المشاريع الثورية فاشلة سواء في كوبا أو في العراق وليبيا وغيرها، ففي معظم الحالات الثورية وقع الزعماء أسر العجز عن التحول، وصاروا ديكتاتوريين “شديدي الديكتاتورية أحيانا” لحماية كراسيهم في وجه مشاكل الناس المتنامية وغضبهم المتزايد، وكانت الحجة التي تستند عليها هذه الديكتاتورية هي الحجة الأسهل وهي “حماية الثورة” أو “القضية” أو “المبادئ”، سمها ما شئت.
هذا يقودني للتأكيد على أن فكرة “الثورة” كانت أحد أسوأ الأوبئة التي أصابت حركة النهضة العربية والإسلامية في القرن العشرين، فبالرغم من أن الثورات تبدو للوهلة الأولى وكأنها قمة العمل النضالي لتقديم المشروع النهضوي، إلا أن فكرة الثورات في حد ذاتها قائمة على التغيير السريع الذي يتخلص من النظام القديم بالكامل ويبدأ نظاما جديدا على أساس “تدميري” بحت لكل ما يخالف المشروع النهضوي الجديد.
هذا بالضبط مثل الرجل الذي يتضايق من مشاكله النفسية فيقرر أن خير حل للمشاكل هو تطليق زوجته وهجران أولاده وتغيير عمله، ويبدأ زواجا وعملا جديدا بينما مشاكله ما زالت هي نفسها.
يأتي الثوريون فيدمروا النظام السابق ثم يعجزون عن تقديم البديل، فيستخدمون قوة السلاح لإجبار الشعوب على الاستمرار في ترديد مبادئ الثورة ومنع تلك الشعوب من فتح ملفات مشكلاتهم التي لم تتغير يوما بل ربما ساءت أحوالهم أكثر بكثير مما كانت عليه قبل الثورة.
والمؤلم أنه في كل الثورات الحديثة عربيا، كان الناس هم أفضل وقود يغذي هذه الثورات ويؤمن بها، لأن عقول الناس البسيطة وثقافتهم المحدودة وعاطفتهم المتوقدة وحماسهم للتغيير يجعلهم يؤمنون بالثورة، وخاصة أن الثورات تعتمد على شعارات متوهجة وتعد بالحلول السريعة للمشكلات، بينما أثبت التاريخ أن العلاج النهضوي الوحيد يأتي عبر العمل المكثف خلال عشرات السنين لحل المشكلات الواحدة بعد الأخرى، أي أنه ببساطة إضاءة مستمرة للشموع الواحدة بعد الأخرى، بدلا من لعن الظلام.
بل إن المؤلم أكثر أن “الحركات الإسلامية” بلعت نفس المقلب، مقلب التغيير السريع والوعود بالنظام المثالي الأفضل، وصارت تدعو لتغيير الأنظمة وتتبنى الانقلابات العسكرية والحركات الثورية والأعمال الإرهابية والمتطرفة بدلا من التغيير طويل المدى، وفشلت هي الأخرى في أن تصنع شيئا، والسودان وأفغانستان خير أمثلة على ما أقول.
وقد يستدل البعض بالثورة الفرنسية كمثال لثورة ناجحة في علاج مشكلات أوروبا التي كانت ترزخ تحت ضغط الأنظمة الفاسدة، إلا أن قراءة فاحصة لتطورات المشروع النهضوي في أوروبا تؤكد أن الثورة الفرنسية كانت مجرد حلقة في عملية تغيير حضارية مطولة كتب فيها آلاف الكتب وقدم من خلالها نظرية متكاملة للعلاج ما زالت تثبت نجاحها النسبي حتى اليوم، وتم خلال عشرات السنين بناء الإنسان الأوروبي الذي كان جاهزا للمشروع الديمقراطي الذي لم تكتمل مسيرته إلا بعد أكثر من مائة وخمسين عاما من الثورة الفرنسية.
إن العرب والمسلمين بحاجة لمشروع نهضوي قائم على نظرية متكاملة _ غير موجودة حتى اليوم _ وتغذيه جهود العرب جميعا عبر عدة عقود من الزمن، كما أن الفلسطينيين محتاجين لمشروع مشابه لا يختطفه الثوريون والسطحيون الذين يظنون أن تفجيرا هنا أو هناك سيحل المشكلة ويعيد الأراضي لأهلها.
تأمل يعمق ونفس طويل كيف كان مشروع التغيير الذي قاده الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والذي بالرغم من أنه كان يتعامل مع مدينة صغيرة مثل مكة وقبيلته قريش، إلا أنه قضى أكثر من نصف سنوات دعوته يبني الإنسان ويغير الأفكار ويطور رؤية متكاملة للدولة الإسلامية، ولم يأت هدم الأصنام وفتح مكة “أي تغيير النظام القائم فيها” إلا في آخر مسيرة دعوته صلى الله عليه وسلم.
لقد أصبح ياسر عرفات، في ذمة الله، بعد أن أتعب أعدائه بدأبه ودهائه، وكانت جنازته تمثيلا عجيبا لحياته، احترام ومراسم في الخارج، وفوضى وعاطفة في الداخل.
مات ياسر عرفات، وسقطت ورقة أخرى من كتاب الثورات العربية الفاشلة، ولعل من يأتي بعده يدرك حاجة الفلسطينيين لزعيم يعمل أكثر من أن يتكلم، ولا يرسل القبلات بدلا من الحلول حتى آخر أيام حياته!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية