كان خبر وفاة الدكتور عبدالقادر طاش، أليما حزينا قاسيا على كل من اقترب منه، واقترب من سريرته البيضاء وهمته التي لا تفتر في خدمة هموم الأمة الإسلامية والعربية، وسعيه الدؤوب لتقديم العلاج المعتدل والهادئ لمشكلاتنا، وحلمه بعالم إسلامي يسوده الحوار والتفاهم والاعتدال والفهم الصحيح و”المخلص” للإسلام.
لم يكن لدى الدكتور طاش، رحمه الله، أجندة شخصية، وكانت أجندته مستمدة من الأجندة التي تحددها مشكلات الأمة عبر السنوات، وقد عكس ذلك بوضوح في مسيرته الصحفية في جريدة المسلمون وجريدة عرب نيوز وقناة إقرأ وجريدتي المدينة والبلاد وجريدة “العالم الإسلامي” وأخيرا جريدة المستقبل التي كان يسعى خلال السنة الماضية لإصدارها، وكان يرغب من خلالها _ حسب ما يظهر في العددين اللذين صدرا منها _ تقديم شكل جديد للإعلام الإسلامي يسوده الاعتدال وقبول التعددية والتأكيد على الحوار والبعد عن اللغة العاطفية أو اللغة الحادة و”الاستعلائية”، ولو صدرت الجريدة لكان الدكتور طاش، رائدا في الخطاب الإسلامي الجديد كما كان رائدا في تقديم مفهوم الإعلام الإسلامي وتطويره وتطبيقه من خلال عمله الأكاديمي ومن خلال عمله الإعلامي وكتبه ومقالاته ومحاضراته ونشاطه الذي لم يتوقف حتى بعد أن استولى المرض الخبيث على جسمه.
لكن “الإسلامية المعتدلة” للدكتور طاش، ليست هي إنجازه الوحيد.
في الحقيقة يعتبر عبدالقادر طاش، رائدا في الحديث عن علاقتنا بالغرب.
وبينما بدا موضوع “الصورة الذهنية للعرب في الغرب” غريبا على معظم الناس حينها، كان الدكتور عبدالقادر، في الثمانينات يؤلف الدراسات والكتب ويطوف من مكان إلى آخر مطالبا العرب بالتركيز على تحسين صورتهم الذهنية وبذل الجهود في هذا المجال، ومناديا رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، بحوار معتدل مع الغرب ومحاولة لفهم الغرب وألف كتبا مميزة ورائعة في هذا المجال منها كتابه “امريكا.. والإسلام: تعايش ام تصادم”.
لكن أحدا لم يستمع للدكتور طاش حينها وظن الناس أن تحسين صورتنا الذهنية في الغرب هو من باب حفظ ماء الوجه والدفاع عن كرامتنا فقط وليس من باب حماية مصالحنا، لأن أحدا منا لم يخطر بباله يوم 11 سبتمبر وما جاء بعده.
في أحد الكتب التي ألفها الدكتور طاش، قدم حوارات مع مفكرين وصحفيين غربيين عن العالم العربي وحاول أن يصور من خلال كتابه كيف إن العقلاء الغربيين معتدلون يفهمون قضايانا ويؤمنون بمعاناتنا وينكرون اضطهادنا، وكأنه كان يدعو بصوت مرتفع لتبني هؤلاء العقلاء وفتح باب الحوار معهم وكسبهم قبل أن يكسبهم غيرنا، وحتى لحظة كتابة هذه المقالة لم يستمع أكثر الناس للنداء.
ذهب الكثيرون جدا من الطلبة العرب والسعوديين لأمريكا ودرسوا هناك، لكن قلة منهم فقط عادت بما عاد به الدكتور طاش، وهو الإيمان العميق بقيمة الغرب وقيمة أن تكون علاقتنا مع الغرب مبنية على الوعي والدراسات والجهد المكثف والصبر وأخيرا مبنية على الروح الإيجابية.
في الحقيقة كانت الروح الإيجابية هي أكثر ما ميز الدكتور طاش، رحمه الله، وجعله محبوبا لدى آلاف الناس الذين غمرهم الحزن يوم الأحد الماضي لما صدموا بخبر انتقال أبي عادل، إلى رحمة الله.
لقد قدم الدكتور طاش، خطابا إسلاميا يحترم الآخر ويؤمن به ولا يلغيه، خطابا لا يرفض ولا يكفر ولا يفسق، بل هو مليء بالمحبة والتقدير سواء كان هذا الآخر من الغرب أو من مختلف الأطياف العربية.
وكان الدكتور، رحمه الله، يدعو كلما سنحت له الفرصة لهذا الخطاب، ولو استمع الناس لهذه الدعوات لكان حالنا مختلف تماما عن حالنا الآن الذي تحول فيه “انتقاص الآخر” إلى تطرف دمر كل آمال العقلاء في بناء “أمة إسلامية راشدة”.
كتب الدكتور طاش يوما كتابه الجميل “قدرنا أن نكون إسلاميين” ويبدو أن قدره أن يكون جزءا من أمة إسلامية لا تستمتع للأصوات الراشدة ولا تتقبل حكمة عظمائها وتنحدر سلبا رغم النداءات المخلصة.
أخيرا بقي أن أذكر أن الدكتور طاش، رحمه الله، كان رائدا أيضا أثناء رئاسته لقسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حين قدم مفهوما مختلفا لتدريس الإعلام، حيث استعان في القسم بعدد من الإعلاميين البارزين الذين لم ينالوا الشهادة الأكاديمية ولكن تميزوا بخبرتهم الإعلامية وصاروا رؤساء تحرير وقيادات إعلامية لامعة، ورغم جمال هذه التجربة واستفادة الطلاب الكبيرة منها إلا أن الكلية سرعان ما غلبت صوت المعارضين وألغيت التجربة، ولم يستمع رجالات الكلية حينها لرأي الدكتور طاش، الذي ربما سمح بتجديد طرق التدريس في الإعلام وغيرها وزيادة فعاليتها عما هي عليه الآن.
رحم الله الدكتور عبدالقادر طاش، وعزاؤنا أن هذا العظيم ترك رسالته موثقة مكتوبة لعلنا يوما نستمع، ونعتدل، ونحب، ونحاور، ونعطي الحكمة حقها بيننا..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية