أخيرا انقشع الضباب وظهرت الحقيقة بلا مجاملة، الدول والشركات التي بذلت مليارات الدولارات تجهيزا لما سمي العام الماضي بـ«فيروس عام 2000»، مرت بنفس التجربة التي مرت بها الدول والشركات التي لم تحرك ساكنا على الإطلاق.
لم تتوقف أي شبكة كمبيوتر عن العمل، لم تنقطع الكهرباء ولا الماء ولا شبكات الهاتف في أي مكان، بدءا من أمريكا وانتهاء ببوركينا فاسو، لم تنطلق الصواريخ النووية، لم تتوقف المطارات، وانجلى الموقف ليترك الكسالى والجهلة بالتكنولوجيا والذين ليس لديهم تكنولوجيا أصلا وكأنهم الأذكى في الموقف.
كانت قضية العام 2000، بكل الصدى الذي تركته والأموال والبرامج والشركات التي خصصت لعلاجها من أكبر القضايا التي مر بها العالم المدار بالتكنولوجيا، وانتهت القضية لتصبح أكبر مقلبا واجه البشرية لأنه لم يحصل أبدا أن سيطر وهم معين اقتنع به الناس كلهم بمن فيهم خبراء التكنولوجيا، ورجال الأعمال، وصناع القرار السياسي، والمفكرون، ورجال الإعلام، والبسطاء جدا من الناس، وبدأ الجميع يعمل بلا توقف لتفادي الوهم لينفقوا في النهاية حوالي نصف تريليون “500 مليار” دولار ثم ليكتشف الجميع فجأة أن الأمر كان مجرد «كابووووووووس» بعد منتصف الليل!!
الآن بدأت أمريكا تفكر من جديد فيما حصل، كيف أمكن لعالم متقدم فكريا وتكنولوجيا وحضاريا وسياسيا بعد قرون من التطور أن يقع في هذا المقلب؟
في الحقيقة هناك أسباب كثيرة والتي تقاطعت كلها مع بعضها في نقطة واحدة لتسبب في النهاية حصول أكبر مقلب في التاريخ:
- المشكلة كانت منطقية جدا، الكمبيوتر يعتمد على التاريخ وهو غير مهيئ للانتقال لـ”00″، وهذا قد يسبب توقف الكمبيوتر عن العمل أو حصول أخطاء فادحة، والشئ نفسه ينطبق على شبكات الكمبيوتر، مما يعني عالما مليئا بالفوضى لأن الاعتماد على صفائح السيليكون صار جزءا من كل شئ في العالم.
ما حصل فعلا هي بضع مشكلات بسيطة في الكمبيوترات التي لم يتم إصلاحها، ومشكلات في الأنظمة التي تعتمد على التاريخ بشكل مكثف مثل أنظمة تجهيز الفواتير، وعدا ذلك كل شئ سار طبيعيا، ذلك ببساطة لأن العالم اكتشف أن الكمبيوتر كان ذكيا إلى حد أن ترتيب العمليات التي تحمل التاريخ “00” قبل العمليات التي تحمل التواريخ الأخرى مثل “98” أو “99”، لم يترك أثرا كبيرا على أداء شبكات الكمبيوتر.
- توافقت المشكلة مع الطبيعة الإنسانية التي تحب التغيرات الدراماتيكية الضخمة والتي تتفاعل مع الخوف من المجهول بشكل كبير، كما توافقت مع الطبيعة الإنسانية «العشرية» والتي ترتب كل الأرقام على مضاعفات العشرة وترى في نهاية كل عقد من الزمن حدثا ضخما، فما بالك بنهاية ألفية من الزمن؟
تخيل أنه قبل دخول عام 1000م، حصل الشئ نفسه، حين سيطر على رجال الكنيسة المسيحية _ والتي كانت في العصور المظلمة في أوروبا _ الخوف من قيام الساعة مع دخول العام الجديد بناء على تفسير معين لآيات الإنجيل ، ومر عام 1000 دون أن يحدث شئ.
- لما تفاعلت المشكلة إعلاميا واقتصاديا، رأى الكثيرون من صناع القرار السياسيين والاقتصاديين حول العالم إمكانية أن يكون الأمر كله مجرد وهم، لكن كان من الصعب على الجميع تجاهل المشكلة، لأن النتائج في حال حدوث المشكلة ضخمة جدا حسب ما تخيلها الرومانسيون من الصحفيين ورجال الأعمال والخبراء الاقتصاديين وخبراء التكنولوجيا.
لذلك بدأ صناع القرار يتجاوبون مع الاحتمالات ويخصصون الميزانيات، وهذا أثر في الناس والتي لم تأخذ هذا الاعتبار في البال وبدأت تتفاعل مع المشكلة وكأنها أمر حتمي لابد منه.
- نحن نعيش في عالم تسقط فيه الإبرة في استراليا فيسمع رنينها الناس في نيويورك، إنها «القرية الكونية» _ المصطلح الذي يستعمل للدلالة على أثر الاتصالات على العالم والتي جعلته كالقرية الصغيرة _ والتي ثبت من خلال هذه الحادثة أن لها ما للقرية الصغيرة الحقيقية من خصائص.
في أي قرية ريفية حين تظهر شائعة تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم.
هذه المرة كانت الشائعة على مستوى القرية الكونية وبدأت تتضخم حول العالم حتى تأثر العالم بها، كل العالم بلا استثناء بمن فيهم حكماء القرية.
- فيروس عام 2000، ذكر الناس بمشكلة كان يتحدث عنها فلاسفة الإعلام دون أن يلتفت إليهم أحد، وهي ما يسمى بمشكلة «حراس البوابة».
في السابق، كانت كل الرسائل الإعلامية تمر بـ«حراس بوابة»، يتأكدون من عقلانية الرسالة وتوافقها مع قيم المجتمع ومن صحتها “نسبيا على الأقل” وغير ذلك.
لما جاء الإنترنت أصبح ممكنا لكل إنسان في العالم، مهما ضحلت ثقافته أو ساءت نيته، أن يرسل رسالة إعلامية للملايين من الناس الذين يستقبلونها بمختلف اللغات في كل مكان حول العالم ويتأثروا بها.
جواب المشكلة عند المفكرين الإعلاميين هو أن الزمن سيحل المشكلة.
في المستقبل سينتبه الناس لهذه المشكلة وحينها لن يأخذوا معلوماتهم إلا من مواقع إنترنت موثوق بها ومعروف من القائمين عليها، والذين سيمثلون «حراس البوابة» الجدد لعالم الإنترنت المعرفي.
لكن الزمن لم يمر بعد والمشكلة مازالت قائمة، وهذا أعطى آلاف الناس الفرصة لتتخيل ما تريد وتنقل معلومات غير موثوقة وتضعها على مواقع على الإنترنت، ثم ليتأثر بها بعد ذلك العالم كله بمن فيهم صفوة المجتمع من صناع القرار والمتعلمين.
- هناك نظرية ليس عليها أي أدلة تقول بأن مشكلة العام 2000، حين ظهرت لأول مرة عاصرت اللحظات العصيبة لمشكلة الرئيس كلينتون الشهيرة، وصراعه مع الكونجرس الأمريكي الذي كان يريد عزل الرئيس حينها.
النظرية تقول بأن بعض أنصار الرئيس كلينتون، انتبه لاحتمال حصول مشكلة عام 2000، وبدؤوا بالكتابة عنها أملا في توجيه أنظار الناس نحو المشكلة الجديدة بعيدا عن المشكلة السياسية للرئيس كلينتون.
شركات الكمبيوتر التي رأت في فيروس العام 2000، فرصة لصناعة مليارات الدولارت، تحركت سريعا بالتجاوب مع المشكلة وتسويق الحلول، وجاء الإعلاميون الذين رأوا في الموضوع قصة صحفية مثيرة بالتجاوب معها، كما تجاوب الرئيس كلينتون معها سريعا _ في نفس الأيام التي كان يستعد فيها لمحاكمته _ بتأسيس لجنة خاصة تابعة للبيت الأبيض لحل المشكلة، ثم بدأت دوائر التأثير للقضية تتسع بشكل سريع لتشمل كل فئات المجتمع الأمريكي، ثم لتنتقل للدول الصناعية والغربية، ثم لتتسع وتشمل العالم ككل، لينتهي الأمر في ليلة دخول العام 2000، حين وقف قطاع كبير من سكان العالم ينتظرون ماذا سيحصل وكلهم أمل وخوف وانشغال واستعداد للمجهول وتجهيزات بدأت بسحب النقد من البنوك وانتهت “في أمريكا خصوصا” بتخزين المياه وشراء موتورات الكهرباء والمواد الغذائية وبيع الأسهم في السوق المالية، وأخيرا عدم استعمال الطائرات.
كأن أول من نشر عن المشكلة من الجهات الإعلامية العريقة في أمريكا مجلة «بزنس وييك»، والتي جاء غلافها تحت عنوان كبير: «كيف سيجرح فيروس العام 2000 أقتصادنا؟».
كان هذا في عام 1998، حيث توقعت المجلة أن معدل النمو الاقتصادي للشركات الأمريكية بسبب التأثير الحاد للفيروس لن يزيد عن نصف بالمائة.
في ذلك الحين تماما كان العالم الاقتصادي كله تحت تأثير الانهيار الاقتصادي الذي حصل لدول آسيا، والذي بدا وكأنه يدمر في أيام المعجزة الاقتصادية التي أنفقت الدول الآسيوية في بناءها عقودا من الزمن.
الأمريكيون سألوا أنفسهم حينها: هل سيحدث الشيئ نفسه لنا؟ إذا حصل في آسيا أن تدمر اقتصادهم في أيام فما الذي يحمي الاقتصاد الأمريكي من الدمار في أيام؟ كان السؤال مليئا بالخوف وجاء رد الفعل بسببه مجنونا.
بعد ذلك جاء رؤساء شركات الكمبيوتر في أمريكا، ومنهم مثلا سكات ماك نيلي، رئيس شركة سن ميكروسيستمز،أحد أهم شركات الكمبيوتر، والذي اقترح على الناس شراء أجهزة كمبيوتر جديدة وتخزينها لبيعها مع دخول القرن الجديد، حين يرمي الناس كلهم بالأجهزة القديمة ويصبح جهاز الكمبيوتر عملة صعبة تباع بأغلى الأسعار بسبب ارتفاع الطلب مع محدودية العرض.
ثم جاء الاقتصاديون والذي تفاعلوا كذلك مع الموضوع ومنهم إد ياردني، والذي كان يعتبر من أكبر خبراء السوق المالية في أمريكا، وظهر بعد ذلك تقريبا كل يوم في مختلف وسائل الإعلام الأمريكية يحذر بشدة من آثار المشكلة، حيث توقع وجود احتمال 70% لانهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل جذري.
ثم جاء الكونجرس الأمريكي والذي خاف أعضاءه، وهم غالبا من السياسيين الذين ليس لهم خبرة اقتصادية أو تكنولوجية، من حصول المشكلة وحرص كل واحد منهم أن يحذر من المشكلة ويلوم الحكومة الأمريكية على تقصيرها قبل أن يقال يوما أن عضو الكونجرس الفلاني كان غافلا عن المشكلة وهذا طبعا زاد الطين بلة.
بعد ذلك اختتمت الزوبعة بالذين أرادوا أن يربحوا من خوف الناس، مثل تجار الحرب تماما، ومن أشهرهم شخص اسمه جاري نورث، والذي باع آلاف الكتب وأشرطة الفيديو والتجهيزات حول المشكلة التي وصفها بـ«أكبر مشكلة واجهها العالم الحديث على الإطلاق».
إذا ذهبت الآن لموقعه الشهير على الإنترنت فستجد العبارة: «أنا الآن مستعد بكل تأكيد للقول بأن تقديراتي لما كان سيحصل، حسب ما ظهر حاليا من الأحداث، كانت غير صحيحة»، اعتراف شجاع ولكنه جاء في الوقت الضائع.
كل هذه الحقائق السابقة تؤكد لك أن الإعلاميين كانوا آخر طرف يمكن القول بأنه صنع المشكلة.
الإعلام هو جزء من عالم يقوده السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، وهؤلاء كلهم وقعوا في المقلب، فكيف يمكن للإعلام أن يتحاشى الموقف.
الخاتمة اعتذار بالنيابة عن كل الإعلاميين في العالم عن الخطأ الذي ربما لن يتكرر قبل دخول عام 3000م أو 2000 هـ.