حين يتم الحديث عن توجيه دفة الاقتصاد الأمريكي يذكر دائما رجل واحد فقط هو ألان جرين سبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي، والذي يعتبره الأمريكيون «أقوى رجل في العالم» على أساس أنه يوجه أقوى اقتصاد في العالم.
منصب رئيس الاحتياطي الفدرالي في أمريكا منصب مستقل عن البيت الأبيض، وذلك ضمن مبدأ فصل السلطات المتبع في أمريكا، وصاحب هذا المنصب يصدر كل القرارات الاقتصادية الاستراتيجية في أمريكا.
حقق ألان سبان، شعبيته الواسعة بسبب ارتباط سياساته بالطفرة الاقتصادية التي حصلت لأمريكا بعد عام 1996، والتي تستمر حتى عامنا هذا، حيث حققت السوق المالية معدلات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي على الإطلاق.
لكن سبان، الذي ساهم في صنع هذه الثورة الاقتصادية من خلال قراراته، اشتهر منذ العام الماضي بمحاولاته المتكررة لتبطئ سير العملية الاقتصادية، ومعدل النمو الاقتصادي القومي السنوي، ومنع التضخم بأساليب متعددة أهمها رفع سعر الفائدة.
من المعروف أن أمريكا مازالت مقارنة بكل الدول الغربية والصناعية في العالم ذات الأقل من ناحية نسبة التضخم، وهذا يعطي قوة شرائية عالية للدولار الأمريكي، ولذا فإنه بالرغم من ارتفاع دخل الفرد الأمريكي فإن الأسعار في أمريكا _ كما يمكن لأي سائح أن يلاحظ _ مازالت مقارنة بكل دول العالم الأول رخيصة جدا، مما يجعل الأمريكيون أكثر شعوب الدول الصناعية تمتعا بالتسوق والاستهلاك.
لكن النمو الاقتصادي السريع والأموال التي بدأت تدر على الفرد الأمريكي بدأت تشجع الناس على الاستهلاك والشراء بشكل كبير، وهذا يؤدي _ كما حصل في اليابان وفرنسا وبريطانيا وغيرها _ إلى ارتفاع الأسعار، لأن الشركات والمصانع تعرف أن الناس لديها القوة الشرائية التي تمكنها من شراء الأشياء بسعر مرتفع.
التضخم ببساطة يحصل عندما يزيد الطلب عن العرض، وهذا ما يمكن أن يحدث لعدة أسباب منها ارتفاع نسبة الاستهلاك.
الحل الذي اتبعه ألان جرين سبان، خلال السنتين الماضيتين لمنع التضخم وارتفاع الأسعار، هو رفع أسعار الفائدة.
هذا يحصل لأن كل الشركات والمشاريع الاقتصادية في أمريكا تعتمد بشكل كامل على الديون التي تتلقاها من البنوك، وعندما ترتفع أسعار الفائدة على الديون تصبح تكاليف المشروعات الاقتصادية أكبر، مما يبطئ حركة الاستدانة من البنوك ونشاط المشاريع الاقتصادية بشكل عام.
في بداية شهر مارس الحالي حققت الأسواق المالية في أمريكا معدلات ارتفاع مذهلة جعلت سبان، يقرر للمرة الخامسة خلال سنتين رفع أسعار الفائدة، الأمر الذي تم في مطلع هذا الأسبوع.
لكن آلان سبان، جاء في مطلع هذا الشهر بأفكار أعلنها في جلسة بالكونجرس الأمريكي جعلت الاقتصاديين في أمريكا يدخلون في جدل طويل حول جدوى هذه الأفكار غير المسبوقة من نوعها والتي تناقض في جوهرها مبادئ الرأسمالية التي اتبعتها أمريكا خلال القرنين الماضيين، كما جعلت عددا من أعضاء الكونجرس يعلنون بصوت عال ولأول مرة اعتراضهم على سياسة آلان سبان، والذي يسمى أيضا بـ«أمبراطور الاقتصاد».
يعتقد سبان، أن ارتفاع الأسهم السريع جاء بثروة ضخمة على الأمريكيين الذي لديهم نصيب من الأسهم، أي حوالي 54% من الشعب الأمريكي، وهذا دفعهم للإنفاق الزائد، كما دفع الشركات للمغامرة ببدء مشاريع برؤوس أموال عالية.
يقترح سبان، إيجاد قانون يمنع الأسهم الأمريكية من الارتفاع بنسبة أعلى من نسبة النمو الاقتصادي القومي الأمريكي ونسبة ارتفاع دخل الفرد الأمريكي السنوية والتي لاتزيد عن 6%.
في الحقيقة عبر سبان، عن قلقه الشديد من نسبة النمو الاقتصادي القومي السنوية والتي بلغت العام الماضي 6%، فيما ينبغي ألا تزيد هذه النسبة في رأي سبان، عن 3% لضمان منع التضخم وارتفاع الأسعار في أمريكا.
ثم جاء سبان، برأيه الذي فاجأ أيضا الكونجرس الأمريكي حين قال، بأن الاختراع التكنولوجي وارتفاع إنتاج الفرد وقلة التكاليف قد يؤدي أيضا للتضخم، ولذا فلابد من فعل ما يمكن لتخفيض الإنتاج الصناعي والاقتصادي.
لماذا؟
ببساطة لأن نمو الإنتاج يؤدي إلى ارتفاع أرباح الشركات مما يؤدي لارتفاع أسعار الأسهم، وبالتالي الأمريكيون سيشعرون أنهم أكثر ثراء وهذا يجعلهم يدخلون في أنماط استهلاكية فيها تبذير يزيد من الطلب على المنتجات مقارنة بالعرض وبالتالي يرفع الأسعار.
هذا يخالف تماما النظرية الاقتصادية الشائعة أن الإنتاج الاقتصادي والصناعي العالي في الحقيقة «يقتل» التضخم، وما يقوله الاقتصاديون أنه لا يوجد شئ اسمه إنتاج أكثر من اللازم.
هذا أيضا أخاف شركات الإنترنت والتكنولوجيا والتي تنمو محفظتها الاستثمارية بنسبة تزيد أحيانا عن 100% سنويا.
في الحقيقة عدد من المحافظ الاستثمارية في أمريكا أعطت العام الماضي أرباحا للمستثمرين تزيد عن 300%، وتخفيض هذه النسبة إلى 6% من أجل منع التضخم أمر لا يبدو معقولا لأحد.
بالعكس، الاقتصاديون يقولون أن تزايد سرعة الإنتاج الاقتصادي ستزيد من العرض في السوق، ولذا فإن ارتفاع نسبة الطلب لن تمثل مشكلة لأنها تأتي بسرعة مماثلة لسرعة ارتفاع نسبة العرض وبالتالي لا يحدث التضخم، وهذا هو بالضبط ما منع السوق الأمريكية من أي تضخم خلال العقود الماضية.
لم يصدر سبان، حتى الآن، أي قرارات تأيد نظريته، إلا أنه في الأسبوع الماضي رفع أسعار الفائدة لتصل حوالي 6%، وهي أعلى نسبة فوائد محددة حكوميا كحد أدنى في التاريخ الأمريكي.
هناك فريق واحد من الناس سعيد بآراء سبان، وهم أولئك الذين يرون أن القرارات الاقتصادية يجب أن تهتم بالفقراء وليس الأغنياء، وبينما أفكار سبان، التي قد تتحول لقرارات قريبا، تعني الضرر للشركات والأثرياء الأمريكيين، فإنها في نفس الوقت تعني ثبات الأسعار وهو أمر رائع بالنسبة لمحدودي الدخل.
هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها طريقة التفكير السويدية إلى أمريكا.
في السويد يتم رفع الضرائب على الأغنياء، وبالتالي الإضرار بهم، لمساعدة ذوي الدخل المحدود الذي يستفيدون من البرامج الحكومية التي تمولها الضرائب وتساهم في تزويد الناس بكل ما يحتاجونه بالمجان، بما في ذلك أحيانا المنازل نفسها.
في أمريكا البلد الذي صمم لمساعدة الأغنياء والأقوياء، هناك من يريد مساعدة الفقراء، ولا يدري أحد إن كان هذا يعني تحولا جذريا في طريقة سير الاقتصاد الأمريكي.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية