في كل يوم تظهر أنواع جديدة من التلوث التي ينشغل الناس بالحديث عنها وطريقة التقليل منها يدفعهم لذلك الخوف من فقدان الجمال الأصلي للطبيعة واستبدالها بكوكب ملوث من المضر العيش فيه.
بدأ الحديث عن تلوث الغابات، وتلوث الجو بالمواد الضارة، وتلوث الصحارى، لينتهي بعدها بالتلوث الصوتي، والذي يرتبط بازدياد الضجة في المدن الكبرى وآثارها السلبية العديدة.
آخر أنواع التلوث التي لم ينتظرها أحد ما يسمى بـ«التلوث الضوئي».
بدأ الحديث عن هذا النوع من التلوث على يد الفلكيين وجمعيات محبي مراقبة النجوم بالتلسكوبات والمنتشرة في مختلف أنحاء أمريكا، والذين بدؤوا يحتجون على الاستعمال المفرط للأضواء والتي بشكل أو بآخر تطلق جزءا من أشعتها للسماء مكونة طبقة ضوئية صناعية تقلل من القدرة على رؤية الضوء الأصلي للنجوم والكواكب حول الأرض.
ثم بدأت الدراسات التي تثبت مثل هذا التأثير السلبي غير المنتبه له على الإطلاق وجوانبه المتعددة واحتمالات تطوره في المستقبل، وبدأ بعدها تزايد أعداد الناس في أمريكا وغيرها من الدول الذين شاركوا محبي النجوم القلق على الضوء الطبيعي للسماء، إلى أن تأسست مجموعة من المنظمات المعنية بهذا الموضوع أشهرها إعلاميا «منظمة السماء المظلمة الدولية»، والتي تضم حاليا أكثر من 3600 عضوا نشطا منتشرون في 70 دولة حول العالم.
وبدأت أمريكا الآن _ كأول دولة تتعامل مع هذه القضية رسميا _ بإصدار قوانين صارمة للتقليل من «التلوث الضوئي» وحماية ضوء السماء.
ربما لا يشارك أحد الأمريكيين مستوى القلق نفسه حول هذه القضية، وذلك ببساطة لأن أحدا حول العالم لا يملك من الأضواء مثل ما يملك الأمريكيون.
وقد عرف الأمريكيون بغرامهم الشديد بالأضواء واستخدامها للدعاية والإعلان، ولذا فإن السير في أي مدينة أمريكية كبرى يعني السير وسط زحام متراكم من لوحات الإعلانات التي تتالى بمختلف الأشكال، بل إن من المعتاد في أمريكا للمؤسسات التجارية والفنادق إضاءة كامل الفندق أو المبنى وحتى إضاءة أشجاره، بحيث يمكن للشخص من بعيد أن ىرى كل ملامح المبني المبهرة.
حتى إذا خرجت من المدن الكبرى وانطلقت مسافرا على الطرق السريعة، فهناك دائما لوحات إعلانات مضيئة متتالية على طول الطريق.
لا أحد يحب الإعلانات مثل الأمريكيين، هم أكثر من يحب استخدام الأضواء للإعلان، وهم أكثر الشعوب _ حسب الدراسات _ استعدادا للإنفاق على الأضواء حتى حول بيوتهم وفي داخلها، وهم الآن أكثر من يشتكي من «التلوث الضوئي».
تخيل أن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها ما يسمى بـ«مدن الأضواء»، والموجودة تقريبا في كل ولاية أمريكية.
مدن الأضواء هي مدن صغيرة يتفق أهلها على إضاءتها كل ليلة _ غالبا أثناء فترة معينة من السنة _ ووضع الأضواء الملونة والمبهرة حول الأشجار وحدود البيوت بشكل مكثف، ثم يأتي الناس للتفرج على هذا المنظر البديع مقابل رسم محدود يترواح بين 5 إلى 20 دولار يتم توزيعه بين سكان المدينة، الذين يستفيدون أيضا من إقبال الزوار على مطاعمهم ومحلاتهم التجارية.
إحدى الرسامات الأمريكيات واسمها ويني بريور، اشترت مساحة خمسة هكتارات في الخلاء في ولاية كاليفورنيا، أملا بالاستمتاع _ كلما أرادت _ بضوء النجوم والهدوء والطبيعة البعيدة عن التشويه الإنساني، ولكن بريور، سرعان ما وجدت نفسها غير قادرة على التأمل في السماء بسبب الأشعة المنطلقة من لوحات الإعلانات القريبة من الأرض والتي قللت من صفاء الرؤية، وبسبب ذلك بدأت بريور، حملة إعلامية تعتبر أحد العوامل الرئيسية التي جعلت الأمريكيين يتعرفون على هذه الظاهرة من وسائل إعلامهم وبالتالي التحمس لها.
أيضا دعم الحملة أولئك الذين يحبون متابعة المذنبات والكواكب التي تظهر مرة كل عام، والذين بدؤوا يحسون أن جهودهم هذه صارت صعبة مع طبقة أشعة الضوء التي تمنع ذلك.
في خمس ولايات أمريكية هي نيويورك، وماساشوستس، وتكساس، ونيو مكسيكو، وفرجينيا، تم في الفترة الأخيرة إقرار قوانين سيبدأ تطبيقها قريبا لإلزام الناس بوضع حد للأشعة المنطلقة من الأضواء الخارجية حول بيوتهم وتحديد قدرة المحلات التجارية على تسليط الكشافات المبهرة نحو السماء، وهناك الآن جهود قانونية مماثلة في ولايات أخرى مثل جزر هاواي، ونيو جرسي، ودول أستراليا، وبريطانيا، قد تسفر عن قوانين من هذا النوع في هاتين الدولتين.
بعض الأشياء التي تطالب بها هذه القوانين بسيط جدا، لا يزيد عن تغطية هذه الأضواء من الأعلى بحيث يمنع ذلك سفر نسبة كبيرة من أشعة الضوء إلى السماء وتلويث صفاءها، وإطفاء أضواء المباني التجارية “غير الإعلانية” ومواقف السيارات بعد ساعات العمل.
من جهة أخرى، هناك من الناس من يحارب جهود منظمات التلوث الضوئي، وهؤلاء عادة هم سكان الأحياء الغنية الذين يعتقدون أن الأضواء المكثفة تحمي أحياءهم من تسلل اللصوص في عتمة الليل، وكذلك المحلات التجارية الذين يؤكدون أن الأضواء هي أهم عامل في المنافسة بينهم وبين المحلات المماثلة.
بالمقابل، جاءت «منظمة مهندسي الضوء في أمريكا الشمالية»، لتمول دراسة علمية استنتجت أن كثيرا من الشركات تستخدم من الأضواء خمس أضعاف اللازم لتحقيق التسويق الفعال، وأن 20% من الأضواء الحالية ستأتي بنفس نسبة الزبائن لهذه الأعمال التجارية.
بناء على هذه الدراسة وعدة دراسات أخرى، جاءت القوانين الجديدة لتخطط تقليل نسبة الأضواء بنسبة 80% عن مستواها الحالي.
بالطبع ظهرت فيما بعد ضمن الحملات الإعلامية فوائد أخرى لمثل هذا التقليل، وأهمها الاقتصاد في الإنفاق على الطاقة الكهربائية، وهي القضية التي بدأ أيضا يتوسع الاهتمام بها، وخاصة أن الدراسات بينت أن توفير 33% من الأضواء الموجودة حاليا _ وهي بالضبط نسبة أشعة الضوء التي تصعد في الجو _ يعني توفير مليار دولار سنويا على الأمريكيين.
دراسات أخرى شرحت الأثر السلبي للأضواء على الطيور بالذات وعلى الحيوانات والأسماك كذلك وطبيعية سلوكياتها وحتى قدرتها على التكاثر، وهذه الدراسات جعلت النشطاء البيئيين يقومون بجهدهم الخاص لحماية البيئة من التلوث الضوئي.
انضم لهؤلاء أيضا فريق ثالث من هواة الطيران بالطيارات الخاصة الصغيرة في أمريكا، والذين يؤكدون أيضا أن مستوى الرؤية لديهم يتدنى بسبب أشعة الضوء التي تتجمع في السماء وتعكر عليهم هوايتهم.
وانضم لهؤلاء سائقو الشاحنات الذين يسافرون لفترات طويلة على الطرق السريعة ويشتكون من انخفاض مستوى الرؤية.
أخيرا جاء المتحمسون لتطبيق «إعلان اليونسكو العالمي لحماية حقوق الأجيال القادمة»، والذين يقولون أن تلويث السماء يعني أن الأجيال القادمة لن تستمع بصفاء السماء كما استمتعنا به نحن.
إذا كنت من هؤلاء الذين يحبون ضوء النجوم ومتابعة الكواكب والمذنبات أو ممن تقوى قريحتهم الشعرية عندما يستلقون على الأرض وينظرون للسماء بعد منتصف الليل، فأنت بالتأكيد ستفهم لماذا كل الانزعاج من «انقراض ضوء السماء الطبيعي».
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية