ماذا بعد فشل مؤتمر منظمة التجارة العالمية؟

من قسم إدارة وأعمال
الأحد 05 ديسمبر 1999|

لم يعد سرا أن الاجتماع الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية، والذي انعقد الأسبوع الماضي في مدينة سياتل في الشمال الغربي لأمريكا وحضره ممثلو 135 دولة، قد حظي بفشل ذريع على عدة جبهات.

كان هناك فشل واضح في قدرة الدول الغربية على فرض أجندتها الاقتصادية / السياسية على الدول النامية، وفشل في الوصول لقرارات في معظم القضايا التي تم مناقشتها، وفشل في التعامل مع المنظمات العمالية والبيئية على مختلف المستويات.

هذا الفشل العلني الذي غطته كاميرات تلفزيونات الكرة الأرضية كلها يصاحبه ما هو معروف من تصميم الحكومات الأمريكية والأوروبية على السير في عملية العولمة الاقتصادية يعني بالتأكيد أن الغرب سيدرس استراتيجياته من جديد بحيث يمنع تكرر ما حدث في مدينة «سياتل».

لعل أجمل ما يلخص باعتدال موقف الدول النامية مع الدول الكبرى في اجتماعات سياتل الكلمة التي ألقاها معالي وزير التجارة، الدكتور أسامة فقيه، أمام المجلس الوزاري، والذي أشار لدعم المملكة “ويماثلها في ذلك معظم الدول النامية” للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها المنظمة، والتي تسعى لإقامة نظام تجاري متعدد الأطراف يتجاوز الحدود الجغرافية، وهذا ما دعى المملكة لأخذ كل الإجراءات اللازمة لحصولها على عضوية المنظمة ووصولها للمرحلة الأخيرة من المفاوضات _ حسب ما أشار إليه معالي الوزير _ بعد جهود مكثفة تضمنت عدة جولات من المشاورات في مقر المنظمة بجنيف وشملت تقديم عروض هادفة ذات مضامين تجارية مهمة بشأن نفاذ السلع والخدمات إلى الأسواق.

في نفس الوقت أشار الدكتور أسامة فقيه، في كلمته، إلى أن المنظمة تحتاج للنظر في آلياتها الإدارية التي تتبعها في تعاملها مع الدول، مثل غموض إجراءات العضوية، وميل الكفة لصالح بعض الأعضاء.

 

اليد الأمريكية وحدها لاتصفق

لم يكن التوتر مسيطرا فقط على العلاقات بين الكتلة الغربية والكتلة النامية، بل إن الدول الغربية الكبرى نفسها عانت من توتر شديد في المحادثات وبالتحديد بين أمريكا من جهة، ودول الاتحاد الأوربي من جهة أخرى.

قبل الاجتماع كانت ممثلة الولايات المتحدة الأمريكية، شارلين بارشيفسكي، تركز على نقطتين رئيسيتين في أحاديثها الصحفية:

  • الأولى: هذا الاجتماع سينجح نجاحا باهرا لأننا سنخرج متفقين على كل القضايا والخلاف هو خيار غير مقبول.
  • والثانية: أن أمريكا غير مستعدة للتنازل عن أي من مواقفها، لأن كل مواقفها مبنية على مبادئ السوق الحرة والديمقراطية وحقوق الإنسان.

دول العالم، وخاصة الأوروبيون، فهموا هذه الأحاديث على أنها تعني أن على الجميع أن يخضع لوجهة النظر الأمريكية ويوافق عليها مهما كان الثمن.

هذا التعامل الذي يتوافق مع السياسة الخارجية الأمريكية التي صيغت في السنوات السبع الأخيرة على مبدأ أن أمريكا هي القطب القوي الوحيد في العالم والذي ظهر واضحا في سيطرة أمريكا على حلف الناتو في الحرب على يوغسلافيا، أزعج الأوروبيين كثيرا، والذين جاءوا _ على ما يبدو _ ليخبروا الأمريكيين أن ما حققوه على الصعيد العسكري لن يتحقق الصعيد الاقتصادي.

أحد الدبلوماسيين الفرنسيين قالها بوضوح: «إذا كانت أمريكا تدعي أنه ليس هناك أي شئ يمكن التنازل عنه، فعلى ماذا نتفاوض ولماذا تسمى مفاوضات؟».

لاحظ هنا أن القضايا التي طرحها المؤتمر كانت حساسة جدا وكثيرة، وكان الطموح الأمريكي بالوصول لقرارات معينة حول كل هذه القضايا خلال أربعة أيام أمرا يتجاوز المعقول.

من هذه القضايا مثلا رفع الحكومات للإعانات عن القطاع الزراعي والقطاعات الأخرى في دولها، وذلك لأن هذه الإعانات تقلل من قدرة الشركات الأجنبية الوافدة من المنافسة مع الشركات المحلية.

بالنسبة للأوروبيين والعالم الثالث كانت هذه قضية مصيرية تحتاج للكثير من الاستثناءات والتعويضات السياسية من قبل أمريكا، المستفيدة الأولى من قرار كهذا، ولم يكن من الممكن التصويت عليها بالإيجاب بتلك السهولة.

الأمريكيون ردوا على احتجاج الباقين بأن المنافسة المتساوية هي من مبادئ السوق الحرة التي تسعى المنظمة لتطبيقها، ولكن الأمريكيون يتناسون طبعا أن هذه المثالية الكاملة في تطبيق النظرية يصبح بعيدا عن التطبيق إذا تعارض مع المصالح الأمريكية كما حدث في العام الماضي من منع شركات الصلب الأجنبية من تسويق الصلب في أمريكا بأقل من سعر الإنتاج المحلي، مما ساهم في عودة سيطرة شركات الصلب الأمريكية على السوق الأمريكي.

في الحقيقة هذا كان السبب الأساسي وراء فشل مفاوضات سياتل، وليس المظاهرات التي ملأت شوارع المدينة بآلاف الغاضبين الذين قدموا من كل صوب تحت تأثير الخوف من العولمة الاقتصادية الذي بثته الحركات العمالية والبيئية.

المظاهرات جذبت كاميرات التلفزيون وأثارت مشاعر الناس، وخاصة عندما أخذت شكلا عنيفا تضمن الهجوم على محلات المدينة وسرقتها، ورد شرطة المدينة برمي القنابل الغازية المسيلة للدموع وحظر التجول العام في وسط المدينة، لكنها لم يكن لها أي أثر ذا قيمة داخل دهاليز الفنادق التي تمت فيها الاجتماعات وحاولت الدول الأوروبية خلالها أن تلقن أمريكا درسا سياسيا قاسيا: «اليد الأمريكية وحدها لاتصفق، ولابد من إرضاء اليد الأوروبية حتى تظهر البسمات على وجه الجميع».

هذا بالطبع ليس للتقليل من جهود وتأثير الحركات العمالية والبيئية.

هذه الحركات عبرت من خلال منظماتها عن آراء تكتسب المزيد من الشعبية يوما فيوم في المجتمعات الغربية، والتي ترى العولمة الاقتصادية مسرحية تستفيد منها الشركات الكبرى على حساب الطبقة المتوسطة والفقيرة من الناس وعلى حساب البيئة والحيوانات وعلى حساب السيادة والهوية الوطنية للدول الضعيفة.

رالف نادر، المرشح الرئاسي الأمريكي السابق ذي الأصل اللبناني، والذي يعتبر زعيم الدفاع عن حقوق المستهلكين والفقراء والدول الضعيفة والبيئيين وتنسب إليه مجموعة «النادريين» ممن يؤمنون بأفكاره، وكان في الستينات الميلادية أهم عشر شخصيات مؤثرة في القرار الأمريكي المحلي، كان له نصيب من الاحتجاج على العولمة والذي بثته المحطات التلفزيونية الأمريكية الكبرى.

نادر، المدهش بقدرته على تسخير الحقائق لصالحه، أثار خوف الناس من العولمة وشفقتهم على الدول النامية التي ستدفع ثمنه غاليا.

 

قرن الإنترنت مختلف عن غيره

لكن الخبراء الأمريكيين البعيدون عن الأيديولوجيات والارتباطات الحركية يؤكدون من جهة أخرى أن العولمة وما يليها من نمو اقتصادي عام ستكون خيرا على الجميع، الدول الكبرى والدول النامية والبيئة.

الكل يؤكد أن العولمة لن توفر الحل المثالي، وأن وجودها يرتبط به عدد من المشاكل ولكنها خير للجميع من الوضع السابق.

هؤلاء الخبراء يقولون، أن هذه المنظمات العمالية والبيئية مازالوا يعيشون في عقلية القرن العشرين الذي يؤمن بالحدود والبوابات، وأن القرن الحادي والعشرين لن يسمح بذلك لأنه لا يعرف الجدران ويؤمن بالتلاحم والتدفق الحر والاتصالات والإنترنت وخير حل للتعامل مع هذا الوضع الجديد هو قوانين منظمة التجارة الدولية.

هؤلاء الخبراء يقولون بأنه بالرغم من عملية هروب الشركات الأمريكية الكبير من أمريكا إلى دول العالم الثالث في التسعينات الميلادية، بسبب رخص عمالة تلك الدول وإمكان استغلالها بشكل واسع وغلاء العمالة الأمريكية والقوانين التي تحمي حقوقها، إلا أن معدلات البطالة في أمريكا وصلت لأدنى حدودها في العام الماضي، وهذا يعني أن تلك العولمة أوجدت نموا اقتصاديا لصالح الجميع.

ماذا عن الشركات الكبرى التي ستأكل أسواق الدول النامية وشركاتها الصغيرة؟

هناك عدة حلول تقوم كلها على التحرك بسرعة على النطاق القانوني والاقتصادي والاجتماعي لتقوية أوضاع هذه الشركات الصغيرة بما يمكنها من المنافسة مع الشركات الكبيرة كما حصل في أمريكا، حيث توجد ملايين الشركات الصغيرة التي استطاعت منافسة الشركات الكبيرة رغم كل القوانين التي تعطي الفرصة للكبار أن يبتلعوا الصغار.

أحد هذه الحلول يذكره سعادة الأستاذ عبدالرحمن الغريري، مساعد المدير العام للبنك السعودي الأمريكي، وهو اندماج الشركات الصغيرة في شركات كبرى كما يحصل في كل دول العالم المتقدم.

ما يلزم هو إيجاد آليات قانونية واقتصادية تساهم في تسريع عمليات الدمج هذه وتعليم الشركات الصغرى على الدخول فيها دون الخوف من فقدان أي مكاسب ذاتية لملاك أي من هذه الشركات.

لكن كيف ستتمكن منظمة التجارة العالمية من معالجة هذه الأزمات بحيث تمنع تكرر «فشل سياتل» والسير بعيدا عن الألغام؟

الحل بدأ في اللحظات الأولى للمؤتمر، حين اعترف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ووزيرة الخارجية، مادلين ألبرايت، بهموم العماليين والبيئىين والنادريين وأن هذه الهموم يجب مناقشتها وعدم تجاهلها، مقترحين مثلا إيجاد مقاييس عالمية لحماية العمالة حول العالم وفرض عقوبات اقتصادية على من ينتهكها من الدول، وهو الاقتراح الذي أثار غضبا غير محدود لعدد كبير من دول العالم الثالث.

أىضا، خرج رئيس المنظمة، مايك مور، بعبارات كلها مثالية ولطف عن أهداف المنظمة وجهودها.

إذن الواجهة ستكون للمثالية وستأخذ شكل حوارات دعائية يشارك فيها ممثلو الدول الكبرى مع ممثلي المنظمات العمالية والبيئية ويصفق الجميع في آخرها سعيدين بجو التفاهم الذي يسود هذه الحوارات، يليها إصدار بعض القوانين الهامشية التي ترضي هذه المنظمات.

بالمقابل ستسعى المنظمة على تعزيز ما بدأته منذ تأسيسها قبل ست سنوات من إيجاد جو من السرية والتكتم على كل تحركات المنظمة ومفاوضاتها وعدم اللجوء للمؤتمرات العلنية إلا للأغراض الرسمية والإعلامية “الاستراتيجية التي اعتمدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ زمن طويل كما تستخدمها الأمم المتحدة في القضايا الحساسة”.

داخل الدهاليز السرية ستكون المفاوضات، بحيث لا تأتي أمريكا أمام الناس لتهين كرامة الأوروبيين والدول النامية بعرضها لأجندة معينة ومطالبتها الجميع بتبجح بالتصويت عليها بعيدا عن أي اعتبارات سياسية واجتماعية.

سياتل مدينة ساحرة تكاد تكون من أجمل مدن أمريكا، تقبع برومانسية على شاطئ المحيط الهادي، فيها أجمل مقاهي أمريكا وجاليات جاءت من كل أنحاء العالم لتحقيق الحلم ببناء الثروة، وهي مقر شركة “بوينغ”، أكبر شركة طيران في العالم، وفيها شركة Microsoft، أكبر شركات الكمبيوتر في العالم، وعدد من الشركات والمصانع الكبرى.

لكن هذه المدينة نفسها بعمالتها الضخمة وحبها السويسري للسلام ومبادئ العدل الاجتماعي التي تصل في مغالاتها للقرب من الاشتراكية، اشتهرت في التاريخ الأمريكي بمظاهراتها المحتجة على النظام الرأسمالي.

في عام 1919، شهدت المدينة أول إضراب عمالي شامل في تاريخ أمريكا، وفي أيام حرب الفيتنام، امتلأت شوراع المدينة بالغاضبين على الجيش الأمريكي وتدخل الحكومة الأمريكية في الشؤون الآسيوية، ويبدو أن الحنين كان يعم قلوب عمال سياتل لاحتجاج آخر.

سياتل، التصق اسمها الآن بأول مظاهرات عارمة ضد العولمة الاقتصادية، ولكن كما حصل دائما منذ عام 1919، المظاهرات لا تصنع قرارات، إنها تملأ الصفحات الأولى بالأخبار ولكن القرارات في النهاية يصنعها السياسيون، حصل هذا في القوانين العمالية، وحصل في حالة الفيتنام، وسيحصل كذلك في حالة العولمة.

* نُشر في مجلة اليمامة السعودية