هناك نظرية طبية تقول أن الأمراض النفسية هي أمراض عضوية يسببها خلل في الهرمونات أو الدماغ، وأنها ليست مجرد انعكاس نفسي لما يمر به الإنسان.
هذه النظرية شجعت إنتاج العديد من الأدوية للعلاج النفسي، والتي أثبت بعضها نجاحه النسبي في معالجة الأمراض النفسية.
الاتجاه الجديد والذي يزداد أنصاره يوما بعد يوم، هو الدخول إلى عالم الدماغ شديد التعقيد وإجراء عمليات جراحية في الدماغ تصل في النهاية لعلاج المريض النفسي.
أحد أهم الأطباء الذين قادوا هذه المغامرة العلمية هو طبيب استرالي اسمه جفري روسنفلد، والذي لم يبال بهجوم زملائه الأطباء عليه لكونه يستعمل أدمغة المرضى النفسيين لإجراء تجاربه.
عمليات د. روسنفلد، تركز على المصابين بالوسواس القهري الحاد والذي يؤدي بهم لأن يغسلوا أيديهم مئات المرات أو أن يجلسوا في الحمام لعدة ساعات يوميا أو غير ذلك من مظاهر مرض الوسواس القهري.
في العادة يمكن علاج مرضى الوسواس القهري باستعمال وسائل العلاج النفسي التقليدية، ولكن بعض مراحل هذا المرض من الشدة بحيث يتعذر علاجه لتستمر معاناة هؤلاء المرضى بلا ،حل والتي قد تؤدي بهم للانهيار النفسي أو الانتحار في كثير من الحالات.
المعترضون على هذا النوع من العلاج يرون أن الدماغ المتحكم في شخصية الإنسان من التعقيد، بحيث لا يمكن الجزم بأن إجراء عملية جراحية لجزء ما منه سيعالج المرض النفسي دون التأثير على أجزاء صحيحة أخرى من شخصية المريض.
هؤلاء يقولون أيضا أن «الجراحة النفسية» إذا تطورت ستكون وسيلة للتحكم في شخصية الإنسان بلا إرادته، وربما ينتج عن هذا التحكم في الشعوب والأفراد كما تم استعمال «غسيل الدماغ» بشكل سلبي قاس من قبل.
في الحقيقة قام بعض الأطباء قبل عقود من الزمن باستعمال «الجراحة النفسية» بطريقة تركت سمعة تاريخية سيئة جدا لمثل هذه العمليات.
من هؤلاء د. هاتشر الأمريكي، والذي كان في عام 1952، يجري عملياته بمستشفى ميليدجيفيل بولاية جورجيا الأمريكية.
هذا الشخص توسع في عمليات الجراحة النفسية بلا حدود وكان يستخدم مرضاه ليقطع جزءا من هناك أو يخيط جزءا من هنا أو يضرب إبرة كحول في جزء آخر ليرى أثر ذلك على شخصية مرضاه، واستمر في ذلك إلى أن تم فضحه على يد طبيب آخر، لتحدث القضية في حينها ضجة إعلامية ضخمة، وخاصة أن العمليات أحدثت آثارا عنيفة في شخصيات بعض المرضى كما أدت لوفاة بعضهم.
الطبيب الاسترالي، إريك داكس، أجرى 700 عملية جراحية نفسية في عام 1953.
تجارب الدكتور داكس، والتي كانت أكثر أخلاقية، أدت بعد مئات العمليات إلى الوصول لطريقة لمعالجة القلق النفسي الحاد، وكانت نسبة نجاحها 80%، إلى أن اضطر للتوقف عن إجراء العمليات مع الاعتراض الشعبي العام عليها.
بعض الأطباء الأمريكيين اقترحوا إجراء هذه العمليات بشكل واسع على السود في أمريكا مع ارتفاع نسبة الجرائم التي كان يقوم بها السود في تلك الأيام احتجاجا على أوضاعهم الاجتماعية، بحيث تؤدي هذه العمليات للتقليل من رغبتهم في العنف والجريمة.
وكانت هذه الأبحاث العنصرية التي استند عليها الأطباء الأمريكيين هي البوابة التي دخل منها الطبيب الروسي، سبياتوسلاف ميدفيديف، والذي أعلن في شهر فبراير الماضي، أنه استطاع استخدام العمليات الجراحية لمعالجة الإدمان على الخمر والمخدرات من خلال إزالة جزء من الدماغ يساعد على الإدمان، مدعيا أن عملياته حققت نسبة نجاح حوالي 80%.
شهدت فترة الأربعينات والخمسينات واحدة من أكثر الحوادث السيئة تأثيرا في ذاكرة الشعب الأمريكي من ناحية الجراحة النفسية، وهي حادثة أخت الرئيس الأمريكي الراحل، جون كندي.
كما هو معروف، فإن أسرة كندي، تمثل بالنسبة للأمريكيين ما تمثله الأسرة المالكة في بريطانيا للبريطانيين، وهذا يفسر الضجة الإعلامية الهائلة التي حدثت عند سقوط طائرة جون كندي الإبن قبل فترة قصيرة، وكان جوسيف كندي، أبو الرئيس جون، غاضبا جدا على تصرفات ابنته المراهقة روسماري، والتي أساءت للأسرة في عدة حوادث بسبب نزقها وطيشها وتعاملها الغاضب الخارج عن التقاليد.
سمع الأب عن عمليات الجراحة النفسية التي تعالج السلوك المضطرب، وقام دون علم أحد في عام 1941 بإرسال ابنته لإجراء واحدة من هذه العمليات، إلا أن العملية أدت لإصابتها بالجنون الكامل، وهي مازالت تعيش حتى الآن في مستشفى للمجانين بولاية ويسكانسن الأمريكية.
كانت هذه الحادثة ذات أثر سلبي عميق على الأب كندي، والذي أسس مؤسسة خيرية أنفق فيها مئات الآلاف من الدولارات لمساعدة ضحايا الجراحة النفسية.
من الأسماء الأخرى التي تظهر ضمن مشاهير هؤلاء الضحايا فرانسيس فارمر، الممثلة الحسناء الشهيرة في الأربعينات الميلادية، وروس وليامز، أخت الكاتب الأمريكي الشهير تينسسي ويليامز، والذي كتب فيما بعد قصة أحد أشهر الأفلام الأمريكية حول الجراحة النفسية «حصل فجأة الصيف الماضي».
في الواقع ألهمت هذه القضية رجال الصناعة السينمائية في أمريكا في السبعينات الميلادية لينتجوا عددا من أفلام الرعب والتي تقوم على شخصية الطبيب الشرير الذي يتحكم في مرضاه بعد إجراء العمليات لهم.
بعض الوثائق التاريخية الاسترالية تتهم الحكم الاستعماري البريطاني باستخدام المعوقين والنساء في الأراضي التي كانت تحتلها لإجراء عدة تجارب في هذا النطاق.
هذه الصورة القاتمة لم تنطبق على جميع الأطباء الذين قاموا بالعمليات الجراحية، بل إن الطبيب البرتغالي، إيجاس مونيز، حصل على جائزة نوبل في الطب في الأربعينات الميلادية لاختراعاته في مجال الجراحة النفسية، وإن كان مونيز، قد ركز عملياته على الشمبانزي والخنازير قبل أن يقوم عدد من الأطباء الأمريكيين بنقلها إلى المرضى النفسيين من البشر.
أحد هؤلاء هو الطبيب، والتر فريمان، أبو الجراحات النفسية في العاصمة واشنطن، والذي قال بأن أعراض القلق والحدة لدى مرضاه تحسنت كثيرا بعد إجراء العملية وإن كانت العمليات تركت أعراضا سلبية جانبية في شخصيات المرضى، مثل ضعف القدرات الاجتماعية واشتداد أحلام اليقظة ووصلت أحيانا إلى حد الوفاة لدى مريضين.
بعد ذلك توصل فريمان، لدواء يمكن حقنه بإبرة في الجزء الضعيف من الجمجمة أعلى العين وتحت الحاجب، ووجد فريمان، أن هذه الوصفة تقلل من إرادة العنف والغضب لدى الإنسان.
الإغراء المادي جعل فريمان، يدور الولايات الأمريكية معلنا أنه يمكنه معالجة الغضب خلال 10 دقائق، ليجري بذلك أكثر من 40,000 عملية خلال فترة قصيرة من الزمن.
النتائج نفسها، تحسن في الحالة المرضية مع أعراض جانبية، تحققت من خلال عدة أطباء حول العالم الذين حاولوا تطبيق نظريات د. فريمان، المنشورة بالتفصيل في عدة كتب.
لكن الصورة بقيت سوداء على كل حال، مما جعل هذا الفرع من الطب يتوقف تماما لولا مغامرة بعض الأطباء الخارجين عن التيار العام.
هؤلاء الأطباء يحاولون اليوم وضع بعض المقاييس الصارمة لمنع تكرار ما حدث، منها استعمال الجراحة النفسية بعد استنفاد كل الوسائل التقليدية الأخرى لعلاج المرضى النفسيين، ومنها منع هذه العمليات إذا كانت تهدف للتقليل من نسبة الرغبة في العنف أو زيادة القدرات العقلية أو تحسين الأداء الجنسي، وإن كانت بعض الدراسات في الماضي قد أثبتت نجاح عمليات الجراحة النفسية في تحقيق هذه الأهداف.
أخيرا يمنع استخدام هذه العمليات على الأطفال أو المجانين الذين لا يستطيعون إعطاء قرار عقلي بالموافقة على إجراء هذه العملية، كما يشترط لإجراء العلمية موافقة مجلس من الأطباء المتخصصين في القضايا الأخلاقية الطبية.
اجراءات أخرى جاءت بعد ذلك مثل تحديد الفتح في الدماغ ليكون في حدود 5 سنتمترات، بعد أن كان الفتح يصل إلى 50 سنتيمترا من أقصى الرأس إلى أقصى الرأس.
يتم الآن في مستشفى ماساشوستس العامة، أحد أشهر المستشفيات الأمريكية، إجراء بعض هذه العمليات مع التقيد بالشروط المذكورة أعلاه، ولكن بعيدا عن الأضواء تجنبا لاعتراض بعض الجمعيات الأمريكية التي جندت نفسها لمحاربة الجراحة النفسية، وهي غالبا جمعيات أسسها أشخاص تضرر أقاربهم بشكل حاد من هذه العمليات في منتصف هذا القرن.
وتركز عمليات مستشفى ماساشوستس، على مرضى الوسواس القهري الحاد والاكتئاب والإدمان ومايشابه ذلك.
ومازالت المستشفى في مرحلة تجريبية ستنتهي بإصدار تقرير علمي عن نتائج هذه العمليات الإيجابية والسلبية، وإذا كان هذا التقرير مطمئنا في الأوساط الطبية فإن العمليات ستنتشر مرة أخرى في الوسط الطبي الأمريكي وربما العالمي أيضا.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية