يتوقع علماء الهندسة الوراثية الأمريكيون أن يظهر خلال الأشهر القليلة القادمة أول تدوين إنساني لشريط الجينات الموجود في الجسم البشري، وذلك بناء على آلاف الدراسات والأبحاث حول جينات الإنسان وترتيبها وآثارها المختلفة على الإنسان على مدى أكثر من خمسة عقود من الزمن وبتكاليف لا تقل عن 100 مليار دولار، جاء معظمها من ميزانيات الشركات والمختبرات والجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية.
الإنجاز الجديد، والذي يقول عنه العلماء الأمريكيون بأنه أهم إنجاز طبي في التاريخ، وقال أحدهم، د. مات ريدلي، بأنه «أعظم لحظة فكرية تاريخية على الإطلاق»، سيكشف أسرار السلاسل الجينية DNA، بعد أن كانت سرا حير علماء القرن العشرين قبل أن يبدؤوا بفك رموزها يوما بعد يوم، ليصلوا إلى العام الذي يقول د. ريدلي، بأن هذا الجيل الذي سيشهد هذا الاكتشاف سيكون محظوظا بروعة الإنجاز.
لسوء الحظ، معظم الناس لن يدركوا ما يراه من «روعة الإنجاز»، إما لأنهم لن يستطيعوا فهم التفاصيل الدقيقة لسلاسل الجينات وتعقيداتها وما يعنيه نشر أول وصف متكامل لهذه السلاسل، أو لأنهم لن يعرفوا بالأمر على كل حال.
تتكون سلاسل الـDNA، من جينات تمثل سجلا ذاتيا لخصائص الفرد وصفاته بما فيها أصله ونسبه، حيث استطاع باحثو الجينات تطوير تقنيات تمكن الإنسان من معرفة ما إذا كان ينتمي لأصل معين، وهذا ما ساعد بعض قبائل الهنود الحمر مثلا أن تجد أنها من أصل تركي أو أفريقي، وذلك لأن السلاسل الجينية لكل شعب من الشعوب متشابهة في أجزاء منها.
أيضا؛ استطاع علماء الجينات أن يقدموا توقعات علمية لمستقبل الإنسان الصحي بناء على السلاسل الجينية، ومن ذلك مثلا أن الجين رقم 334 في السجل الكامل للسلاسل الجينية الذي سيكشف عنه قريبا، يمكن منه معرفة مدى قابلية الإنسان للإصابة بمرض الزهايمر _ يحدث للكبار ويسبب فقد الذاكرة تماما كما حصل للرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان _ فإذا كان الحرف الجيني «إي» بدلا من «جي»، فإن احتمال إصابة الإنسان بهذا المرض يزيد إحدى عشر ضعفا ويقترب من التأكيد.
وقد يسبب هذا الاكتشاف سعي العلماء لتقديم اجراءات وقائية تعطى لهؤلاء الناس الذين لديهم احتمال عالي للإصابة بالمرض في السنين الأخيرة من حياتهم.
يمكن تخيل السلاسل الجينية على أنها تحوي من المعلومات ما تحتويه تقريبا 5000 صفحة كتاب متوسط الحجم، وهذا الكتاب سيصبح متاحا بمسودته الأولى قريبا، وحينها سيمكن لعلماء الجينات والطب البحث في هذه المعلومات للكشف عن المزيد من الأسرار.
حتى تتعجب أكثر من عظمة خلق الله، عز وجل، يجب أن تعرف أن في جسم كل إنسان آلاف المليارات من السلاسل الجينية أو الكتب ذات الـ5000 صفحة، ويمكن أخذ شعرة واحدة من الإنسان مثلا لأنها ستحوي على سلسلة جينية كاملة ذات بعد واحد واتجاه واحد مكونة من رموز قليلة تعارف عليها العلماء تكفي لدراسة تاريخ الإنسان وصفاته المختلفة، بما في ذلك شكله ولون شعره وجنسه ونصف قدراته العقلية وحوالي 40% من صفاته النفسية.
هذا الاكتشاف يذكر بقضية علمية ضخمة أثارت الكثير من الجدل خلال الأربعين سنة الأخيرة وهي: من بالتحديد يقرر سلوكيات الإنسان النفسية والعقلية؟
في البداية جاءت العلوم الاجتماعية، بما فيها النفس والاجتماع، لتقول أن كل سلوكيات الإنسان تأتي من تأثير المجتمع عليه منذ اللحظات الأولى من حياته وحتى يموت، وأنه لا قيمة أبدا للتركيب الجيني أو الوراثي، وتأثر بذلك بشكل واضح الماركسيون واللينيون، ثم جاء المفكرون السياسيون الغربيون ليعدلوا الاتجاه قليلا في صياغتهم للنظرية الديمقراطية بالتركيز على أن الإنسان له إرادة كاملة في كل سلوكياته، وأنه يمكن أن يغير من نفسه حتى لو كان التأثير النفسي لأحد الأحداث التي حدثت في أول حياته عميق جدا.
بعد ذلك جاءت دراسات على التوائم الذين يملكون نفس التركيب الجيني ولكن عاشوا منفصلين عن بعضهم، ليجد العلماء أن التاريخ المختلف لكل شخص لم يغير الكثير من سلوكياتهم، مما جعل هؤلاء العلماء يعتقدون أن صفاتنا النفسية والعقلية هي قضايا جينية وراثية، وتوافقت هذه النظريات مع بعض النظريات السياسية التي شاعت أول هذا القرن والتي جعلت أبناء الجنس الآري أفضل من غيرهم نفسيا وعقليا لأنهم يشتركون في التركيب الجيني، ثم جاءت نظريات أخيرة معمول بها الآن تقول أن التركيب الجيني أو الوراثي يمثل تقريبا 40% من صفات الإنسان النفسية و50% من قدراته العقلية، بينما الباقي يأتي بتأثير إرادة الإنسان وتأثير المجتمع عليه.
ولكن هذا السؤال سيبقى مفتوحا للنقاش وخاصة حين يظهر هذا الكنز الضخم من المعلومات عن صفاتنا الوراثية والجينية والذي سيعيد السؤال مرة أخرى للأضواء وقد يكون له تأثير حاد على النظريات الاجتماعية والنفسية والسياسية في القرن القادم، كما كان له تأثير كبير في القرن العشرين، الذي ظهر في الصراع الفكري بين الماركسية والديمقراطية والنازية.
إنه من المؤلم أن هذه الثورة العلمية في فهم تفاصيل الإنسان تأتي كبرهان آخر على عظمة الخالق، عز وجل، الذي قدر سبحانه وتعالى على هذا الخلق العجيب، إلا أنها في الغرب جاءت معزولة عن هذا البعد الديني الهام، بل إن العلماء الغربيون وعلى رأسهم داروين، استعملوا أول اكتشافات السلاسل الجينية والتي وجدوها متشابهة مع السلاسل الجينية لحيوان الشمبانزي ليقدموا نظرية «التطور الطبيعي»، والتي تؤمن بأن الإنسان جاء بعد مسيرة طويلة من التطور دامت لملايين السنين تطور فيها الخلق جينيا من ميكروب وحيد الخلية إلى الإنسان، وجاءت هذه النظرية بديلا لما هو مؤكد في كل الكتب السماوية بما فيها الإنجيل والتوراة، أن الإنسان هو خلق الله، عز وجل، الذي نفخ من روحه في آدم عليه السلام، أبو البشر وأول الخلق.
سؤال أخير قد يخطر ببال كل قارئ: لماذا استطاع الأمريكيون دون غيرهم أن يقودوا هذه الثورة العلمية الهائلة في مجال الاكتشافات الجينية دون غيرهم من الدول الصناعية المتقدمة التي لا تقل عن أمريكا في قدراتها العلمية والبحثية؟
الجواب ببساطة جدا: «ابحث عن الدولار».
في أمريكا ينص القانون على السماح للشركات الأمريكية بمنح نسبة من ضرائبها للأعمال الخيرية، أي غير التجارية أو غير الموجهة أصلا لجني الأرباح المادية.
إذا عرفت أن حوالي 10% من أرباح الشركات الأمريكية، والتي تزيد سنويا عن 4 تريليون دولار، تذهب للأعمال غير الربحية، فهذا يشرح لك وجود منظمات ضخمة للأبحاث يأتي تمويلها من الشركات، فضلا عن تبرعات الأفراد والتي تخضع لنفس القانون، وعلى رأسها جمعية السرطان الأمريكية والتي تزيد ميزانيتها عن 600 مليون دولار سنويا.
بالنسبة للشركات، التبرع يعني سمعة طيبة في أوساط المجتمع واستفادة من مال سيذهب إن لم يتبرع به للحكومة الأمريكية، وبالنسبة للشركات الطبية بالخصوص، التبرع للأبحاث الطبية يعني تمويل ثورة علمية هائلة تنتج يوميا الاكتشافات التي يمكن تحويلها فيما بعد لمنتجات تجارية ذات أرباح ضخمة.
الأمريكيون وحدهم بسبب ميزانياتهم الضخمة، استطاعوا بناء تجربة مميزة يتم تمويل البحث العلمي فيها بمليارات الدولارات سنويا بعيدا عن الدعم الحكومي، مع قوانين صارمة تمنع المتبرعين من التدخل في مسيرة البحث العلمي أو نتائجه أو محتواه.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية