في أواخر التسعينات الميلادية، حصل انهيار سريع لعدد كبير من شركات الإنترنت بسبب إفلاس كثير منها في السوق المالية، وكانت قصة لا تتكرر من التغيرات الأليمة والسريعة في عالم صنعه الأمل بمستقبل شبكة الإنترنت وتآمر المحللين الماليين، وانهار على يد المستثمرين الذين اكتشفوا فجأة أن استثماراتهم مبنية على قصور من الهواء.
هناك حاليا مخاوف حقيقية من تكرر الأزمة نفسها، ربما ليس بنفس الحدة لأن البنوك والأسواق المالية تعلمت من أزمة التسعينات، ولأن شركات مثل “جوجل” و”أمازون” بالإضافة لـ”ميكروسوفت” وApple، أسسوا قاعدة صلبة لعالم الإنترنت من الناحية المالية باستثماراتهم وأرباحهم والعدد الهائل من الشركات التي تعتمد عليهم، ولكن هناك بالمقابل آلاف الشركات التي ما زالت تعاني من التعثر والمبالغة في التوقعات والخوف من مستقبل رديء يقتل كل أحلامها، وهذا يشمل شركات مثل “فيسبوك” و”لينكد إن” LinkedIn.com، و”جروبون” Groupon.com، وغيرها.
هذه المخاوف ظهرت للسطح بعد تراجع لأسهم شركة “باندورا” (Pandora.com) من 16 دولار كسعر الاكتتاب في اليوم الأول إلى 13.4 دولار في يومه الثالث من التداول بسبب ظهور تحليلات تؤكد أن الاكتتاب كان مبالغا فيه وأن أرباح “باندورا” الحقيقية لا تسمح بهذا التقييم، رغم أن شركات مالية عريقة مثل مورجان ستانلي، وجي بي مورجان تشيس، كانت وراء التقييم، ورغم أن فكرة “باندورا” كموقع هي فريدة من نوعها وساهمت باجتذابه لأكثر من 90 مليون مشترك “الموقع عمليا يطلب من الشخص أن يختار أغنية معينة يحبها، ثم يقوم النظام بتأسيس قناة راديو خاصة بهذا الشخص تختار عبر آلية فريدة من نوعها الأغاني التي يتوقع النظام أن يحبها الشخص أيضا، وتقوم ببث الأغاني على مدار الساعة”، إلا أن فكرة أن “باندورا” تقدم الخدمة مجانا وتنتظر الإعلانات وتدفع لشركات الموسيقى حقوقا تتزايد مع ازدياد المستمعين للأغاني جعلها في وضع مالي محرج قد تؤدي حسب توقع بعض المحللين لإعلان إفلاسها قريبا مع الانخفاض السريع لسعر السهم إلى 5.5 دولار.
الوضع نفسه موجود لدى شركات مثل “جروبون”، وهي شركة حققت نجاحا عالميا في التجارة الإلكترونية عبر الكوبونات – في آلية فريدة أيضا -، وهناك ترقب هائل في الأسواق المالية لطرحها للجمهور، ورغم أن الشركة تعلن عن أنها شركة رابحة، إلا أنها في الحقيقة تستخدم أساليب غير تقليدية في تقييم أرباحها، حيث تعتمد مقياسا ماليا جديدا اسمه ACSOI والذي يقوم بحساب الأرباح بعد خصم تكاليف التسويق لأجل الحصول على عملاء جدد والاستحواذ على الشركات الأخرى، والتي لو تم حسابها ضمن التكاليف، فستظهر على أنها شركة تعيش خسائر كبيرة، وهذا أيضا بدأ يثير الكثير من القلق حول الشركة ومستقبلها من الناحية المالية.
“جروبون” تدافع عن مقياسها المالي بأنه يظهر مدى نجاح الفكرة من الناحية المالية أما تكاليف التسويق والاستحواذ (444.7 مليون دولار مخصومة من دخل الشركة لعام 2010 البالغ 713.4 مليون دولار) فهو ثمن بناء شركة عملاقة جديدة في عالم الإنترنت.
بعض المواقع الإخبارية والإعلامية اعتمدت مقياس محاسبي جديد عندما اعتبرت تكلفة بناء المحتوى، مثل تكاليف الصحفيين والكتاب، من الأصول الثابتة التي يتم توزيع تكاليفها على خمس سنوات، تماما مثل الأجهزة وغيره على أساس أن المحتوى يحتاج إلى وقت حتى يتم استهلاكه، وبالتالي لا يتم حساب تكلفة المحتوى ضمن حساب عمليات الموقع بما يظهر الموقع رابحا بينما هو يعيش خسائر حقيقية.
نفس المشكلات المحاسبية ظهرت على السطح مؤخرا مع عملاقي الشبكة الاجتماعية “فيسبوك” و”لينكد إن” LinkedIn، بينما موقع مثل “تويتر” لا يتكلم عن أرباح ودخل حتى الآن، وهذا فجأة تراكم لدى المحللين الماليين حتى صاروا يتكلموا عن عالم جديد من المواقع الكبرى التي تحدث أثرا كبيرا ولكن بدون أرباح حقيقية، رغم الدعم الضخم الذي تحصل عليه من الشركات المالية، كالدعم الذي حصل عليه موقع “فيسبوك” من شركة “جولدمان ساتش”، والذي أثار نقدا حادا ضد جولدمان ساتش، وصل إلى اتهامها بصراحة من المحللين الماليين بما يخدش مصداقية الشركة الاستشارية المالية الكبرى بشكل حاد.
المحللون الماليون الآن بدؤوا يشككون في معايير أخذت مصداقية عبر السنوات في دراسة أداء مواقع الإنترنت مثل عدد الزوار (Eyeballs) والوعي بالموقع (Mindshare)، ولكن هذه المعايير أثبتت ضعفها في حالات مثل موقع Pets.com – موقع متخصص في بيع ما يخص الحيوانات المنزلية -، والذي حقق عددا هائلا من الزوار ونسبة وعي كبيرة بسبب حملة إعلانات مكلفة جدا ثم أفلس بعد سنة واحدة من طرحه في السوق المالية بسبب عدم قدرته على تحقيق الأرباح.
هذا كله مع الخوف من تكرار انهيار مارس 2000 سيؤدي بالتأكيد إلى مراجعة للكيفيات التي تحصل بها مواقع الإنترنت الجديدة على المال، وقد يترك آثارا عميقة على عالم الإنترنت في أمريكا سواء من حيث سرعة نمو شركات الإنترنت أو من حيث اعتمادها على المستقبل المنتظر والإعلان الذي سيأتي، ومثل هذه التأثيرات – كما أثبتت التجارب السابقة – ستنتقل سريعا إلى عالم الإنترنت في مختلف أنحاء العالم، في حين ستستمتع شركات مثل “ميكروسوفت” و”جوجل” و”أمازون” وApple وغيرها باستقرارها في السوق وتمددها السريع للسيطرة على العالم الجديد..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية