هناك نوعية من الكتب بدأت تقفز بخجل وهدوء إلى أعلى قائمة المبيعات العربية، وهي ذلك النوع من الكتب الذي يركز على فهمنا لتفاصيل حياتنا اليومية المتسارعة، وهذا ليس بالأمر الغريب فهذا النوع من الكتب ظل يحتل قوائم الكتب الأكثر مبيعا في الغرب وفي آسيا من خلال كتب السير الذاتية والكتب التي تركز على التجارب الحياتية الخاصة للناس والكتب التي تحاول فهم ما يجري حولنا في العالم.
الإنسان في يومنا هذا يعيش في تجارب متسارعة، وثورة الاتصالات ساهمت في تنوع التغيرات التي نعيشها وساهمت كذلك في جعلنا جزءا من معمعة الحياة في كل مكان على وجه الأرض وليس فقط في البلد الذي نعيشه، ونحن في العالم العربي نعيش ظمأ شديدا لرصد هذه التجارب وتسجيل تفاصيلها وتوثيق التغيرات التي عشناها مع محاولة فهم أبعاد هذه التغيرات الثقافية والاجتماعية.
لو لاحظتم ستجدون أنه في السنوات الأخيرة استطاعت عدد من الروايات أن تقفز إلى الرف الأعلى في معارض الكتب ودور النشر، وأنا لا أظن أن الأمر له علاقة بشغف الناس بالرواية، بل لشغفهم بتلك الكتب التي استخدمت أسلوب الرواية للتورية ولتوثيق تفاصيل الحراك الاجتماعي والثقافي في السعودية وفي العالم العربي، وكان هذا وراء نجاح “شقة الحرية” ووراء نجاح روايات تركي الحمد الأولى، ولما ابتعد الدكتور غازي القصيبي، في رواياته عن هذا المنهج وأيضا لما ابتعدت روايات الحمد، عن ذلك فقدت بريقها ووهجها الساطع، ليحتل المكانة نفسها رواية “بنات الرياض” ثم عدد من الروايات الحديثة التي صدرت في العام الأخير بما فيها رواية “مذكرات طالب ثانوي”.
كثير من هذه الكتب _ مع تقديري الشديد لكتابها _ لم تنجح لأنها روايات عظيمة، بل هي في معظم هذه الحالات تفقد أساسيات الحبكة الأدبية، ولكن لأنها تكلمت عن حياتنا وتغيراتها وتفاصيلها، ولأنها سربت تفسيرا خاصا لما يحدث من حولنا في المجتمع باسم الرواية.
وإذا كان هناك من يقول بأن السبب الوحيد لنجاح هذه الروايات هو تحدثها عن “أمور ممنوعة” وكسرها لأطر المحرمات الثقافية، فإن الرد عليه يأتي من الاستشهاد بالنجاح الكبير لكتب الزميل تركي الدخيل، “ذكريات سمين سابق” و”سعوديون في أمريكا”، والذي استخدم أسلوبه الممتع في رصد تفاصيل حياتنا اليومية من خلال الحديث عن تجربته الشخصية معها، فنحن عطشى لمعرفة تفاصيل حياة رجل سمين، وحياة السعوديين في أمريكا، وعطشى لتفاصيل كثيرة مشابهة في الحياة من حولنا، ومستعدون للإقبال على أي كتاب يستخدم أسلوبا جميلا بما فيه الكفاية لمناقشة هذه الجوانب وتوصيف دقائقها.
هذا هو سر اهتمام الناس بكتب السير والتجارب الذاتية في كل مكان في العالم، وأستغرب أنه رغم هذا الاهتمام الواضح، فإن كتب السير الذاتية ما زالت نادرة لدينا، وما زالت تركز على المشاهير فقط ولا تنتقل لأولئك الأشخاص العاديين الذين لديهم تجارب حياتية خاصة يمكن ببساطة تحويلها إلى قصص رائعة ومثيرة جدا.
أستغرب أيضا كيف إن إعلامنا العربي لم يفهم هذا السر بعد كما ينبغي.
في أمريكا وآسيا تجد قصة امرأة تتعرض للمحاكمة أو عائلة تعاني من أزمة غريبة من نوعها _ أو ما يسمى في عرف الإعلاميين بالقصص الإنسانية _ ذات أهمية كبيرة وتقفز لكونها الخبر الأول أو الثاني في نشرة الأخبار، والسبب ليس فقط لأن الناس تتعاطف إنسانيا مع مثل هذه القصص بل لأنها أيضا تمثل جزءا من الحياة اليومية وهذه القصص هي نافذة على معطيات تلك الحياة.
لقد مرت حرب العراق بكل قسوتها وما زال الناس بعيدون كل البعد عن فهم ما يحصل في حياة العراقيين وتخيل أزمتهم وذلك لأن الإعلام مستعد ليعطي وقتا أطول للحديث عن المفاوضات السياسية وتصريحات الزعماء والوزراء ورؤساء الأحزاب، ولكنه لا يعطي الكثير من الوقت للحديث عن ما يحدث كل يوم في حياة العراقيين، كيف يستطيعون المضي رغم كل هذا الذي حولهم؟ كيف يعيش الطفل العراقي؟ هل هناك مدارس وجامعات؟ كيف يتحدث العراقيون عن أنفسهم؟ هل يعاني العراقي من الخوف بشكل يومي أم أن التفجيرات تحصل في أحياء معينة والناس هناك مستعدون بشكل أو بآخر للموقف؟ أجد نفسي والكثيرين من حولي غير قادرين على الإجابة لأن الأخبار والبرامج والأفلام الوثائقية التي تجيب على هذه الأسئلة قليلة جدا.
لو وقف القارئ لبرهة وهو يمضي خلال هذا المقال، فقد ينظر باستغراب لما أقوله، هل معقول من بين كل القضايا التي نهتم بها ومن بين كل التحديات التي تواجهنا تخرج علينا “تفاصيل الحياة اليومية” كاهتمام جديد يجب أن نوليه عنايتنا؟ الجواب هو نعم، إن طبيعة البشر النفسية وتسارع الحياة من حولنا تجعلهم “محتاجون” لذلك، ونحن وإن كنا نشبع هذه الحاجة من خلال الحوارات الاجتماعية اليومية والتي لا ندع فيها موضوعا إلا وتناولناه بأدق التفاصيل، إلا أن أي وسيلة إعلام أو كتاب ستنجح وتضرب ضربتها عندما تهتم باحتياجنا هذا.
في المقال القادم سأروي كيف تحولت هذه التفاصيل إلى علم له وجود في كل جامعة غربية بينما لا يدرس في أي جامعة عربية، وكيف تطورت مناهج بحثية حول فهم تفاصيل الحياة اليومية ونماذج من هذه البحوث.
حتى ذلك الحين أترككم في رحلة البحث عن التفاصيل!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية