يقدر معدل الحجم الحقيقي للإعلانات التلفزيونية على القنوات السعودية والإماراتية والعربية لعام 2006 بحوالي مليار دولار فقط، وهو رقم منخفض جدا مقارنة بحجم الإعلانات التلفزيونية في مختلف أنحاء العالم إذا قارنا حجم الإعلانات بمعدل دخل الفرد أو معدل النمو القومي أو حجم المبيعات في قطاع معين.
هذا يعكس جوهر التحدي الذي يواجه الإعلام التلفزيوني العربي المعتمد على الإعلان الخليجي بشكل خاص، فالإعلان هو عصب الإعلام، ويحتاجه الإعلام التلفزيوني أكثر من غيره بحكم أنه يعتمد كلية على الإعلان وبحكم أن مصاريفه الضخمة جدا لا يمكن تعويضها من مصادر أخرى.
لقد ساهم انخفاض حجم الإعلانات في تدهور مستوى الإعلام التلفزيوني الخليجي والعربي رغم كثرة القنوات التلفزيونية، الأمر الذي جعل هذه القضية محور نقاشات رجالات الإعلان والإعلام خلال السنوات الأخيرة الماضية، وخاصة عندما ساهم التقدم التكنولوجي في حضور القنوات الغربية إلى الساحة العربية، وصارت المنافسة وجها لوجه بين التلفزيون العربي ذي الموارد المحدودة وبين التلفزيون الأوروبي أو الأمريكي ذي الموارد الضخمة بسبب تطور قطاعات الإعلان في تلك الدول.
خذ على سبيل المثال قطاع تلفزيون الأطفال، حيث تكشف الإحصائيات أن قناة مثل “ديزني” أو “نيكولوديان” _ والتي ستبث مجانا بعد أشهر من دبي _ تنفق حوالي أربعين ضعفا على ساعة الإنتاج التلفزيوني مقارنة بالقنوات العربية ولكنها تحصل على موارد مالية وأرباح تصل إلى أكثر من ألف ضعف.
لماذا يواجه الإعلام التلفزيوني الخليجي هذه الظاهرة؟ ما هي المشكلة بالضبط؟ ماهي التحديات وكيف يمكن علاجها؟
- ميزانيات تسويق “غير منطقية”
يتم حساب مدى تقدم الإعلان التلفزيوني في دولة ما عادة من خلال مقارنة حجم الإعلان بمتوسط دخل الفرد على افتراض أنه كلما زاد دخل الفرد زاد استهلاكه للمنتجات والخدمات المختلفة، وبالتالي يزداد العرض وتزداد المنافسة، مما يعني ازدياد الحاجة للإعلان وتضخم قطاع الإعلان التلفزيوني كنتيجة لذلك.
بعض الباحثين يأخذ في الاعتبار اختلاف الأنماط الاستهلاكية من دولة لأخرى، حيث تختلف نسبة ما ينفقه الإنسان استهلاكيا من دخله ولذا يقارنون حجم السوق الإعلاني بحجم المشتريات، فمثلا تنظر الدراسات لعدد السيارات الجديدة التي يتم بيعها في دولة ما، ويقارنونها بحجم الإنفاق على إعلان السيارات ليقدروا كم يتم الإنفاق من الإعلان لبيع كل سيارة.
لو أخذنا أيا من الطريقتين فإن حجم الإعلان في العالم العربي مقارنة بدول العالم الأخرى يأتي في آخر القائمة.
الأسلوب الثالث وهو الأكثر شيوعا واستخداما في الدراسات الإعلانية هو مقارنة نسبة السوق الإعلاني من الناتج القومي GDP، وهو المقياس الذي يرصد كافة الأنشطة الإحصائية في الدولة، وبناء على هذا المقياس نجد مثلا أنه في الدول ذات النشاط الاقتصادي الضخم مثل الولايات المتحدة الأمريكية فإن الإعلان يمثل 1,31% من الناتج القومي، بينما في إيطاليا والبرتغال يبلغ حوالي 0,6% من الناتج القومي، أما في الدول ذات النشاط الاقتصادي المتوسط فنجد اليونان قد احتل فيها الإعلان نسبة 1,2% من الدخل القومي، وضمن الدول ذات النشاط الاقتصادي المتدني نجد روسيا قد احتلف فيها الإعلان نسبة 0,8% والصين نسبة 0,47%.
بالنسبة للدول العربية فإن النسبة أقل بكثير، ففي المملكة العربية السعودية، حيث يبلغ الإنفاق الإعلاني الأعلى مقارنة بالدخل القومي نجد أن الإعلان لا يتجاوز 0,15%، بينما تبلغ النسبة في الدول العربية كلها بما فيها السعودية حوالي 0,18%، علما أن الدراسات في العالم العربي خاصة تعتمد على تقدير الإعلانات من خلال سعرها الأصلي دون الأخذ بالاعتبار نسبة الخصومات، ولو أخذت بالاعتبار لكانت النسبة أقل بكثير “الأرقام حسب دراسات شركة Zenith Optimedia البحثية الشهيرة في هذا المجال”.
السبب الرئيسي لانخفاض حجم الإعلان في العالم العربي _ في رأيي الشخصي _ أن معظم الشركات في العالم العربي لا تربط ميزانياتها التسويقية حتى الآن بالناتج الفعلي لهذه الميزانيات، ولذلك فهذه الميزانيات لا تزداد بما يتوافق مع ازدياد أهداف الشركة التسويقية والبيعية sales targets، ولا تزداد بما يتوافق مع ازدياد حجم الطلب على منتجاتها وخدماتها أو مع ازدياد الناتج القومي، بل هي مرتبطة غالبا بقرارات مزاجية حول نسبة ما تريد الشركة إنفاقه على التسويق من الميزانية السنوية العامة.
أضف إلى هذا أن نسبة عالية من مدراء التسويق في الشركات والمسؤولين عن ميزانيات الإعلان لا يملكون التدريب الكافي الذي يمكنهم من مناقشة الوكالات Media reps، التي تتولي تخطيط حملاتهم الإعلامية حول قراراتها الإعلانية، بينما تفتقد الوكالات في الوقت نفسه للكفاءات البشرية التي تمكنها من إقناع العميل المعلن بكيفية تخطيط حملته الإعلانية بما يتوافق مع أهدافه التسويقية، بحيث تبدو كل محاولة من الوكيل لإقناع العميل بزيادة حجم الإعلان وكأنها عملية تسويقية ساذجة يهدف الوكيل من وراءها إلى زيادة حجم النسبة التي يحصل عليها من الإعلانات، الأمر الذي يساهم في مقاومة العميل لطلبات الوكيل، حتى لو كانت طلبات مبررة ماليا وتسويقيا.
- لا للمعلومات!
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الشركات بشكل عام بعيدة عن اتخاذ القرارات الصحيحة هو عدم وجود المعلومات الإحصائية اللازمة عن القنوات المشاهدة وفئات الجمهور التي تشاهدها والبرامج التي يكثر عليها الإقبال ومن يقبل عليها، فضلا عن المعلومات عن العائد الحقيقي للإعلان من حيث الفعالية، وبقدر ما يمكن لوم القطاع التلفزيوني لعدم العمل الجاد حتى الآن على توفير المعلومة اللازمة التي يحتاجها المعلن، فإن اللوم يتجه بالشكل الرئيسي للمعلنين الذين لا يستثمرون حتى الآن ولو مبلغا بسيطا في تشجيع المبادرات البحثية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، ولا يشترون التقارير الصادرة عن المؤسسات البحثية الموجودة حاليا ما يقلل من موارد هذه المؤسسات ويمنعها من القيام ببحوثها على عينات كبيرة من الجمهور كما يمنعها من استخدام أساليب أكثر مصداقية وتماسكا.
في الحقيقة، إن التعامل اليومي مع المعلنين يؤكد غياب الوعي لدى كثير منهم بأهمية المعلومات والخطورة الكبيرة لعدم توافرها وذلك كما قلت سابقا لأن كثيرا من المعلنين لا يتخذ قراراته على أسس علمية على كل حال، بل يعتمد على انطباعاته الشخصية عن الوسيلة الإعلامية وعن الجمهور وخصائصه وعن طبيعة الرسالة الإعلامية التي ينبغي توجيهها للجمهور.
- “مقياس الجمهور” هو الحل
هناك شعور عام في القطاع الإعلامي والإعلاني أن الدراسات البحثية القائمة على الاتصال بعينة عشوائية من الناس وسؤالهم عما شاهدوه يوم أمس على التلفزيون وتقييمهم لما شاهدوه لا ينتج دراسات ذات مصداقية عالية لأسباب كثيرة لها علاقة بكفاءة الذين يقومون بالبحث وبعدم جدية الجمهور في الإجابة على الأسئلة بشكل صحيح وبقدرة الإنسان على التذكر الدقيق لما شاهده سابقا.
لهذا السبب، هناك اقتراحات واسعة النطاق في السوق العربي باعتماد أسلوب مختلف للقياس وهو ما يسمى بمقياس الجمهور People Meter، حيث يتم وضع جهاز مربوط بالريسيفير في المنزل، ويتم إعطاء ريموت كنترول خاص لكل فرد في المنزل _ لتمييز المعلومات الإحصائية الخاصة بالرجل عن المرأة، والخاصة بكل عمر _ ويخزن هذا الجهاز المعلومات الخاصة بالمشاهدة حسب فتح وإغلاق التلفزيون وحسب تحويل القنوات، ثم يقوم بإرسال هذه المعلومات لمركز الأبحاث عبر ربط الجهاز بشبكة الإنترنت أو عبر أخذ الأجهزة من المنازل وربطها بجهاز خاص لدى مندوب شركة الأبحاث.
تطبيق هذا الأسلوب في الغرب أسهل بكثير من تطبيقه في العالم العربي لأنه في الغرب يعتمدون على الكيبل كتقنية لتوزيع المحطات التلفزيونية، والكيبل بطبيعته يسهل سحب المعلومات وإرسالها لشركة الأبحاث، كما أن طبيعة الناس المنفتحة اجتماعيا لا تجعلهم يخافون من التعامل مع الشركات البحثية التي تخترق خصوصياتهم، ولكن في العالم العربي يختلف الوضع فنحن نعتمد على الأقمار الصناعية وليس الكيبل، والناس متحفظون غالبا على معلوماتهم، والحكومات لم تنص القوانين اللازمة لتطبيق هذه التقنية لحماية مراكز الأبحاث وحماية المحطات التلفزيونية وحماية الأفراد، بالإضافة إلى أن ميزانيات معظم المحطات التلفزيونية لا تسمح لها بتمويل هذه الدراسات بينما المعلنون _ كما ذكرت سابقا _ ليس لديهم الوعي الكافي لتمويل مثل هذه الدراسات.
لكن رغم كل ذلك هناك جهود حثيثة لتطبيق هذا الأسلوب من الدراسات، وقد نجدها في المملكة العربية السعودية _ إذا كتب لهذه الجهود النجاح _ خلال العام القادم.
- حجم سوق الإعلان التلفزيوني
كجزء من الغموض في سوق الإعلان التلفزيوني العربي، لا يعرف تماما حجم سوق الإعلان الفعلي، فبالنسبة لعام 2005 تجد أن الأرقام التي أعلنتها مؤسسة الأبحاث الشهيرة “بارك”، تبلغ لسوق الشرق الأوسط عموما ولكافة قطاعات الإعلان إلى 5,8 مليار دولار، بينما أعلنت إبسوس IPSOS الشهيرة أيضا رقما يبلغ 5,2 مليار دولار، في حين أعلنت مجموعة شويري الإعلانية، وهي أكبر شركة إعلانية في الشرق الأوسط حيث تتولى إعلانات مجموعة MBC وإعلانات مجموعة تلفزيون دبي، وإعلانات LBC، أن حجم الإعلان لا يزيد عن ملياري دولار، وهو الرقم الأقرب إلى الحقيقة، لأن الأرقام التي تعلنها “بارك” و”إبسوس” مبنية على السعر الأصلي للإعلان قبل الخصم Rate card prices، حيث تقوم مؤسسات الأبحاث بإحصاء الحملات الإعلانية على قناة معينة وتقدير قيمتها حسب قائمة الأسعار التي تعلنها القناة، ولا تأخذ المؤسسات بالاعتبار أنه ما يحصل في الحقيقة أن المعلنين يحصلون على خصومات تصل أحيانا إلى 50 – 70% من السعر المعلن.
بالنسبة للإعلان التلفزيوني، أعلنت بارك، أن حجم الإعلان في عام 2005 يصل إلى 2,6 مليار دولار، بينما أعلنت إبسوس، أن الحجم لا يزيد عن 2,2 مليار دولار، في حين قدرت مجموعة شويري، الحجم الحقيقي للإعلان التلفزيوني بـ586 مليون دولار، حسب ما ذكر في مقالة كتبها أنطوان شويري، رئيس مجموعة شويري.
- ظاهرة غير منطقية
الإعلان التلفزيوني في العالم العربي يمثل ظاهرة غير منطقية لأن الإنفاق عليه محدود ولا يتناسب مع النمو الاقتصادي ولا دخل الفرد، كما لا يتناسب مع إقبال العرب على مشاهدة التلفزيون مقارنة بغيرهم.
المعلنون غير منطقيون لأنهم لا يربطون الإعلان بأهداف الشركة بشكل واضح، بينما السوق الإعلاني غير منطقي لأنه لا يعتمد على المعلومات بشكل أساسي وبقي كل هذه السنين معتمد على الخبرة الشخصية والقرارات المزاجية.
أكثر الأمور لا منطقية بين هذا كله هو نشوء عشرات المحطات الجديدة بينما حوالي 85% من السوق الإعلاني الصغير تتقاسمه المحطات الأولى من حيث عدد المشاهدين “التلفزيون السعودي، محطات MBC الأربعة، العربية، الجزيرة، LBC، المستقبل، روتانا سينما، المجد، وتلفزيون دبي”.
الحل فقط في يد المعلن إذا تحول للمنطقية وصار أكثر موضوعية في قراراته الإعلانية وصار يطالب بالأرقام ويستثمر في الحصول على المعلومات وينفق أكثر في سبيل تحقيق أهدافه التسويقية.
* نُشر في مجلة الإعلام والاتصال