في عام 1931 قرر أحد الصحافيين في جريدة الـ”إيفنينج بوست” في نيويورك تسليط الضوء على أحد الجرائم بسبب ارتباطها بأحد الأسر المعروفة، وما أن نشرت الجريدة الخبر حتى تدافعت الصحف في اليوم التالي لتغطية الجريمة وتداعياتها بشكل أكثر تفصيلا، واضطرت صحف أخرى للبحث عن جرائم أخرى حتى لا تخسر المنافسة.
المجتمع الصحفي اكتشف فجأة أن الناس لها غرام بأخبار الجرائم، ومستعدة لدفع المال لشراء صحيفة لأنها غطت جريمة حصلت في الحي المجاور حتى لو كانت الجريمة تافهة جدا ومن النوع الذي يتكرر يوميا، وكانت النتيجة أن أصبحت تغطية الجرائم جزءا أساسيا من الصفحات الأولى في نيويورك، الأمر الذي انتقل لاحقا لمختلف صحف العالم، وصارت هناك مجلات وصحف متخصصة في هذا المجال.
من جهة أخرى، واجهت شرطة نيويورك تحديا غريبا، وهو أن استطلاعات الرأي في ذلك الوقت كشفت أن النيويوركيين، بعد التغطية المكثفة للجرائم، صاروا يعتقدون أن الجرائم تزداد في مدينتهم وزاد عندهم الإحساس العام بالخوف، وهذا ترك أثره السلبي على مدير شرطة نيويورك الذي كان يتجهز لإعادة انتخابه كمدير للشرطة، وكانت المفارقة أن الأرقام الحقيقية كشفت أن هناك تراجعا كبيرا في الجرائم في نيويورك كما وكيفا، ولكن التغطية الإعلامية المفاجئة ألغت هذا الإنجاز في أذهان الناس وانطباعاتهم.
لاحقا، كشفت الدراسات أن التغطية الصحفية المكثفة لأخبار الجرائم تساهم في زيادة وعي الناس باحتمالات الجرائم، وتجعلهم يتخذون الكثير من الحيطة والحذر، ويساهم في التقليل من الجرائم عموما، بينما تجاهل تغطية الجرائم يعطي الناس الإحساس الواهم بالأمان، ويجعلهم لقمة سائغة للمجرمين الموجودين في كل بلد في العالم عبر التاريخ “كما يحصل في موضوع سرقات السيارات في بلادنا”.
هذه الأوجه المتعددة للقضية تجعل القرار الرسمي بالنسبة لتغطية الجرائم صعبا.
فمن جهة تغطية الجرائم ترضي الإعلام وترضي القراء وتزيد من الوعي، ومن جهة أخرى ينبني عند الناس وهم خاطئ بأن بلادهم مليئة بالجرائم بينما الحقيقة قد تكون بأن البلاد في أمن وأمان كامل ولكن الإثارة الصحفية تعطي مثل هذا الانطباع الخاطئ.
الحل الوسط الذي أدعو إليه وخاصة مع الانفتاح الإعلامي في السنوات الأخيرة والذي سمح لوسائل الإعلام السعودية بنشر بعض أخبار الجرائم هو إيجاد برامج توعية مكثفة لرجال الأمن بالدرجة الأولى حتى يتحكموا في المعلومات بالشكل الذي يمنع من استخدامها بشكل خاطئ، وإيجاد برامج التوعية للإعلاميين حتى يدركوا حجم المسؤولية التي يتحملوها في نشر مثل هذه الأخبار، وينتبهوا لها أثناء التغطية الإعلامية.
فيما يلي بعض القضايا الهامة في هذا المجال التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار في برامج التوعية هذه:
- يجب أن يكون هناك مصدر رسمي للمعلومات الخاصة بالجرائم، حتى لا تصدر معلومات متناقضة كما حصل مثلا في قصة الفتاة السودانية التي خطفت في الرياض، أو المرأة التي ادعت الاغتصاب في الدمام، ويترك هذا شوشرة على الرأي العام.
المصدر الرسمي يمكن فرضه بالقانون، ولكنه يجب ألا يكون باردا ضعيفا لا يشبع حاجات الإعلاميين السريعة والمكثفة، بل يجب أن يكون قادرا على عقد مؤتمرات صحفية يومية ويقدم كما مناسبا من المعلومات بعد التدقيق فيها والتأكد من مناسبتها للنشر.
- المعلومات التي تنشر يجب ألا تضر أشخاصا أو أسرا أو العاملين في مؤسسة معينة بعينهم أو أشخاصا من جنسية معينة، لأن مثل هذا الضرر يتضخم أحيانا بشكل كبير، وتصبح له آثار سلبية حادة.
- الأخبار يجب أن تكون دقيقة في وصف الحدث، وفي وصف الصورة العامة المرتبطة بالخبر، بحيث يفهم المتلقي دائما أن هذه حالات فردية عندما تكون كذلك، وبحيث تكون هناك إحصاءات دقيقة عندما يرغب الإعلام في التنبيه على وجود ظاهرة واسعة الانتشار.
- الشائعات هي ملجأ الناس عندما لا تتوفر المعلومة، ولذا فالمبدأ الأساسي هو إتاحة المعلومات وليس حبسها حتى لا تنتشر الشائعة في كل مكان، حتى لو كانت هذه المعلومة قاسية أحيانا.
- احترام المبادئ المهنية العالمية في مجال تغطية الجرائم مثل اعتبار الشخص بريئا تماما حتى تثبت إدانته، واحترام أن الجريمة قد تكون خطأ ولا تعني أن مرتكبها رجل كله سوء ويستحق الشتم، كما أن هذا لا يعني أن عائلته سيئة، بل كل ما في الأمر أن هذا الإنسان مر بلحظة ضعف، يستحق العقاب عليها، ويستحق العلاج كذلك.
- بناء مبادئ مهنية مكثفة خاصة بنوعية الصور التي تنشر، وكيفية صياغة العبارات بشكل تخرج فيه عن العاطفية، ويحترم الأفراد، ويكون عادلا مع الجميع، ولا يقع فريسة لوهم الصحفي وتعميماته غير الصحيحة.
- من المهم أن يضع القضاء قواعد واضحة تسمح بالتغطية الإعلامية لمجريات المحاكمات القضائية دون التأثير السلبي على احتياجات القضاء، لأنه من غير المعقول أن يتابع الناس أخبار الجريمة والقبض على المتهمين _ والذين لم تثبت إدانتهم بعد _ ثم ينقطع الخيط فجأة، فلا يعرف الناس ما يحصل خلف أسوار القضاء.
- إيجاد مواقع على الإنترنت ووسائل توعوية تسمح للناس بالعودة إليها للاطلاع على المعلومات التي تساعدهم على الوقاية من الجريمة، لأن أخبار الجرائم تحتاج أيضا لإحساس الشخص بأنه لن يقع فيما وقع فيه جاره بحكم اتخاذه للاحتياطات اللازمة.
أظن أن الحياة ستكون أكثر “درامية” عندما نطلع على تفاصيل الجرائم والحوادث من حولنا _ خذ تجمع الناس حول حوادث السيارات كدليل على كلامي _ الإعلاميون يعشقون نشر قصص الجرائم، والناس تعشق قراءتها، ولكن هذا الحب يجب ألا يكون على حساب المجتمع والناس والأمن.
وحتى لا نخسر الدراما في حياتنا، وحتى نكون على اطلاع صحيح على ما يحصل ما حولنا، نحتاج لثقافة “أمنية-إعلامية” جديدة تعالج مثل هذه القضية الهامة.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية