يقول المثل العالمي الشهير: “لا تعطه سمكة، وإنما علمه صيد السمك”.
وهذا المثل يفترض أن ينطبق على العملية التعليمية لأن المطلوب هو تهيئة الطلاب بشكل مكثف للاستعداد للحياة العملية، ولكن مناهج التعليم الحالية المطبقة في معظم دول العالم العربي تعلم الطالب كل شيء إلا صيد السمك، تعلمه قدرا هائلا من معلومات ونظريات وتاريخ الكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء، ولكن ترفض أن تعلمه كيف يستعد لقيادة وتطوير حياته المهنية والشخصية.
لقد بنيت مناهج التعليم في العالم العربي على أساس نظرية قديمة تؤمن بـ”الذكاء” و”العلم” و”التهيئة للدراسة الجامعية”، وهي تحتاج للتعديل بحيث تقوم على نظرية جديدة تؤمن بـ”الإبداع” و”التطوير” و”التهيئة للحياة العملية”.
لقد أثبتت عشرات السنين من تطبيق النظرية القديمة أن حشو العقول بالمعلومات المكثفة فائدته محدودة جدا، لأن هذه المعلومات تضيع مع نسمات الهواء التي تهب على الوجوه السعيدة بعد خروجها من آخر اختبار في العام الدراسي، وهذه المعلومات تختفي تماما عندما يبدأ الإنسان في سلوك طرق حياته العملية.
ليس ذلك فحسب، بل إن مناهج التعليم المكثفة تمنع الأساتذة من ممارسة الأنشطة الصفية المنهجية التي تشجع الطلبة على الإبداع وتطوير الأفكار الجديدة واستيعاب مفاهيم العلم الأساسية، كما أن هذه الكثافة تجعل من حياة الطالب الذي تريد أسرته أن تجعل منه طالبا متفوقا حياة قاسية لا معنى فيها للطفولة ولا وقت فيها لممارسة معاني الحياة.
لكن بعيدا عن هذا كله مما تحدث عنه غيري كثيرون من قبل _ دون فائدة تذكر كما يبدو حتى الآن _ أريد أن أركز على بعد مهم في مناهج التعليم الغربية، يمكن أن نستفيد منه في إعادة صياغة المناهج التعليمية.
قبل أربع سنوات قمت بتدريس طلبة السنة الجامعية الأولى في قسم الإعلام في أحد الجامعات الأمريكية، وفوجئت أن هؤلاء الطلبة الذين جاءوا لتوهم من مقاعد الدراسة الثانوية قادرون بكفاءة على الكثير من المهارات التي تعلموها على مقاعد الدراسة مثل الكتابة التسويقية، وتصميم البروشورات، وعروض البوربوينت، وإلقاء الخطب، والمناظرات، والتخطيط للمشاريع، ورسم الأهداف، وأساليب استهلاك وتقييم محتوى وسائل الإعلام “الصحف والمجلات والتلفزيون”.
لما فاجأتني هذه الظاهرة وبدأت أتتبع مناهج التعليم الأمريكية، وجدت أن الطالب يتلقى مادة هامة منذ الصف الأول الابتدائي تعلمه الخطابة والحديث والقدرة على المناقشة، وهي مهارة يحتاجها كل ناجح في أي تخصص، ويتلقى موادا عن وسائل الإعلام، ويتعلم كيف يعد خطة تجارية، وخطة تسويقية، وكيف يستثمر ماله، ويدرس كيف يدير مشروعا، وكيف يؤسس ميزانية، وكيف يبحث عن وظيفة، وكيف ينجح في التأثير على الآخرين.
الأهم من ذلك أن الطالب يتعلم في كل مواده الدراسية أن يبحث عن المعلومة في مظانها بدلا من أن يستلم المعلومة جاهزة ويحفظها.
تجد هذا واضحا بالطبع في الدراسة الجامعية حيث التركيز على تعليم الطالب كيفية الحصول على المعلومة وتقييمها بدلا من حفظ آلاف الصفحات كما هو شأن الكثير من الجامعات العربية.
ويبدو هذا أشبه ما يكون بالمثل الذي بدأت به هذا المقال حيث يمكنك تشبيه القدرة على إيجاد المعلومة بتعلم الصيد، أما تقديم المعلومات الجاهزة للحفظ فهو أشبه بالسمك الذي لا يمكنك أن تأكله على كل حال، لأنك سرعان ما ستنسى هذه المعلومات، ويذهب جهدك هباء.
أريد أن أؤكد هنا أن نظرية الاستفادة من المدارس لإعداد الطلبة للحياة الجامعية أصبحت موضة قديمة، حيث يدعي الأساتذة أن الطلبة بحاجة لاستيعاب كل هذه المقررات لأنهم ربما يدرسوا يوما في كلية تستدعي معرفة معادلات الكيمياء ونظريات الفيزياء، وأنا أرى أن هذه نظرية خاطئة تماما، ومخالفة لما هو مطبق في الدول المتقدمة، حيث يستعاض عن هذا بدراسة الطلبة لهذه النظريات في السنوات التمهيدية في الكليات الجامعية، وهذا معناه أن الطالب يخرج بعد 12 سنة مهيئا للحياة العملية، ويلجأ للدراسة الجامعية فقط إذا كان يريد التخصص في مجال ما ويرفع من إمكانياته العلمية والفرص الوظيفية المتاحة له “فقط 44% من الطلبة الأمريكيين يدرسون في الجامعات بعد انتهاء المرحلة الثانوية”.
إن هذا ما أعنيه بالضبط بقلب المناهج رأسا على عقب، لأن المناهج الحالية تحشوك بالمعلومات، وتنتظر من الجامعة أن تعدك للحياة العملية، والمطلوب العكس تماما، مناهج تعد الطالب للحياة العملية، تاركة المعلومات المتخصصة للحياة الجامعية.
إننا في العالم العربي نعاني من مشكلات واضحة في سوق العمل، لأن هناك بطالة هائلة، وهناك أيضا حاجة كبيرة للموظفين الأكفاء، وهذه معادلة غريبة لا سبب لها إلا عجز مناهج التعليم عن إنتاج الشباب القادرين على تحقيق متطلبات العمل، ولا يمكنك لوم الشباب، لأن أحدا لم يقرر أن يعلمهم كيف يطوروا مهارات حياتهم ليصبحوا ناجحين في سوق العمل وقادرين على المنافسة.
أكتب هذا كله تفاؤلا بالتأسيس الجديد لوزارة العمل التي أرى من أهم أولياتها التنسيق مع وزارة التربية والتعليم لخلق مناهج تعليمية جديدة تحل مشكلة البطالة ولا تجعل الجامعة أساسا في حياة الإنسان، وتجعل الجلوس على مقاعد الدراسة تجربة ممتعة ومفيدة، وليست مجرد 12 سنة ضائعة من حياة الإنسان لا يبقى منها إلا الذكريات الكئيبة.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية