بخلاف ما يراه الكثيرون، محافظون كانوا أو ليبراليون، أعتقد شخصيا أن الثقافة العربية والإسلامية لديها تاريخ عريق وعظيم ومهمل في نفس الوقت في التسامح وقبول تعدد الأفكار وتنوع الرؤى، فقد عاش المجتمع الإسلامي ونمى محافظا على مبادئ الشريعة الإسلامية وحاميا لها دون أن يكون لديه مشكلة مع المخالفين سواء كان هؤلاء المخالفين ينتمون لمذاهب عقدية ضالة، أو مذاهب فكرية غير معتادة، أو مدارس ثقافية مستحدثة، أو مظاهر التعبير غير المقبولة في المعايير الأخلاقية العليا.
إنه من المفاجئ أن نقرأ عن عمر بن أبي ربيعة، والذي كان يخرج كل عام للحج متزينا باحثا عن جميلات نساء العرب ليتغزل بهن، دون أن نجد رفضا “عنيفا” من المجتمع الإسلامي البكر لهذه الظاهرة، أو ظاهرة بشار بن برد، وأبي نواس، ومن المفاجئ أن نقرأ عن خروج كتاب مثل “الأغاني” ليقرر أن المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة كان مجتمع لهو وطرب مستندا في ذلك على روايات واهية فقط، بينما لم نسمع عن تعرض المؤلف للاضطهاد أو الملاحقة القانونية من ولاة المسلمين حينها.
بل أدهى من ذلك، كان الزنادقة يطوفون المساجد ليناظروا علماء المسلمين بمن فيهم أبي حنيفة النعمان، في وجود الله عز وجل، ولم نسمع عن محاولات قتل أو عنف من أي نوع.
ويبدو أن السلف كانوا حذرين جدا في تطبيق مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يبدو بوضوح أنهم فهموا عن الإسلام ما لم نفهمه من قبول التعددية، لأن المسلمين شعروا بقوة لا تتحمل الشك أن الله سبحانه وتعالى قرر لهم الاجتهاد كمحور أساسي في الرؤية الإسلامية، وأن الله سبحانه وتعالى كان قادرا على أن يحدد لهم مبادئ دينهم كثوابت لا تقبل الاجتهاد ولا التغيير عبر الأزمنة، ولكن ما نجده أن النصوص الشرعية فتحت باب الاجتهاد بحيث تتناسب الآراء مع اختلاف العقول والظروف والتوجهات النفسية والاجتماعية التي تحكم المجتهد أثناء قراءته للنص.
لقد بدأت التغيرات الجديدة في ظروفنا الاجتماعية والسياسية تشرح القيمة الرائعة لمثل هذا الفهم “المرن” من قبل المجتمعات الإسلامية الأولى للتعامل مع الآخر، وهي قيم تؤكد أن ثقافة التسامح وتعليم الحوار لها جذور أصيلة في ثقافتنا، كما أنها تجارب ستساعدنا على بناء منهجنا الخاص المتمايز عن المنهج الغربي فيما يتعلق بتعليم التسامح والتعددية.
ولعل من الجميل أن نسمع طروحات جديدة عن تعليم التسامح والتعددية، وهذا يبعث في النفوس أملا بأن تعصف بمدارسنا روح مختلفة عن روح التعصب والحقيقة الواحدة ورفض كل ما هو مختلف وغريب.
لكن تعليم التسامح والتعددية ليس أمرا جديدا على الإطلاق، بل إن هناك فرعا علميا اسمه “تعليم التعددية” Diversity Education، والذي ألفت فيه عشرات الكتب وتقام فيه دورات مكثفة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وكندا.
وتعليم التعددية قائم على فكرتين أساسيتين ينطلق منهما:
- الأولى: بأنه لا توجد هناك حقيقة مطلقة، وأن كل أمر يمكن النظر إليه من عدة زوايا، وأن الناس يختلفون في الآراء والأفكار والتوجهات وأسلوب الحياة بسبب اختلافهم عقليا ونفسيا واجتماعيا، وأنه ليست هناك حقيقة كاملة، بل إن كل فكرة فيها ثغرات ونقاط ضعف، ولذلك لا يمكنك رفض أفكار الآخرين لأن أفكارك ورؤاك بكل أنواعها قد تكون خاطئة، وأن منهج الإنسان يجب أن يكون دائما البحث عن الحقيقة، وقد لا يختلف القارئ معي أن هذا منهج إسلامي ويمكن تأصيله بسهولة من أحاديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومناهج علماء السلف.
يجب أن أوضح هنا أن هذا طبعا لا يشمل الثوابت التي قررتها الشريعة الإسلامية وجاء بها الوحي السماوي، بل هو يشمل القضايا القابلة للاجتهاد والتفسير والتفكير فقط.
- الثاني: بأن كل أفكار العنصرية والاستعلاء ورفض الآخرين وإقصاء المختلف قائمة على الصور السلبية الذهنية، وهذه الصور تعاني دائما من التعميم غير المنطقي والمعلومات السطحية.
إن دورات ومناهج تعليم التعددية تركز بشكل خاص على تصحيح هذه الصور السلبية والتأكيد على أن التعميم أمر سطحي وخاطئ تماما، وهذا يتم من خلال تمارين مكثفة وعديدة تتضمن التواصل مع الآخر المرفوض والتعرف على “إنسانيته” ودوافعه للاختلاف.
إن علينا أن نعترف أننا نحمل صورا سلبية عن الآخرين، سواء كانوا عربا أو غربيين، وسواء كانوا مختلفين معنا في الدين أو المنهج الفكري أو حتى المذهب الفقهي، ونحمل صورا سلبية دائما عن الجنس الآخر، وعن الأجيال الأخرى، ولو اختبرت الصورة الذهنية في عقل أي عربي عن العرب الآخرين لوجدتها سلبية قاتمة، ولو سألت أبناء منطقة معينة عن أبناء المناطق الأخرى في أي دولة عربية لسمعت صورا قاتمة أيضا، وتصحيح هذه الصور السلبية وتعليم الناس الحذر من السطحية والتعميم والسلبية هو حل أساسي لمشكلة الرفض والإقصائية وربما الإرهاب.
التجربة الجميلة الأخرى التي يمكنك ملاحظتها في المدارس الغربية هو وجود مواد “المناظرة” التي تبدأ من الصف الأول الابتدائي، وبالرغم أن هذه المادة تساهم بشكل أساسي على تعليم القدرة على الإقناع وطرح الحجج إلا أنها أيضا تعلم آداب الحوار واحترام الرأي الآخر، لأنك دائما تسمع حجج الطرف الآخر، وتحاول مناقشتها، وأحيانا تبنيها، ومن التمارين الشهيرة في هذا المجال في مواد المناظرة التي تساعد في تعلم آداب الحوار هو أن يحدد الحكم قضية معينة ثم يطلب من أحد الطلاب أن يتبنى وجهة نظر اليمين ويدافع عنها، ويطلب من آخر أن يتبنى وجهة نظر اليسار ويدافع عنها “رغم أنه قد يرفضها حقيقة”، وهذا بالطبع يساعد المحاور على وضع نفسه مكان “الآخر” وتخيل طريقة تفكيره.
هذه التجارب جديرة جدا بالتأمل والاهتمام والتطبيق أملا في بناء جيل جديد يحب الحوار ويؤمن بالتعددية ويعرف أن الحقائق نسبية وأن المعلومات تحتاج للتمحيص، ويرى قبل كل شيء قيمة “الإنسانية” وجمال الإنسان مهما كانت آراؤه.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية