لم يعد سرا أن مبيعات الصحف والمجلات في العالم العربي تتراجع بشكل كبير، وليس خافيا على معظم الناس أن القنوات الإخبارية في عالمنا العربي لها رواج أقل بكثير مما ينبغي مقارنة بما ينفق عليها ومقارنة بالقنوات الإخبارية غير العربية.
وهذا التراجع الإعلامي ظاهرة مشهودة في كل أنحاء العالم، وليس خاصا بالعالم العربي.
الكثيرون يركزون في تفسير هذه الظاهرة على المنافسة مع الإنترنت والترفيه التلفزيوني والأفلام السينمائية، أو تغير شخصية أجيال القرن الحادي والعشرين.
لكن سببا آخر يغيب عن أذهان الكثيرين هو غياب “المصداقية”.
وضعف مصداقية الإعلام العربي خصوصا والإخباري عموما ليس سببه أن الإعلاميين أشرار يعشقون الكذب والمبالغات، والضغط الرقابي لا يمثل عامله الرئيسي، بل ببساطة لأن المصداقية تكلف الكثير من المال، الأمر الذي لا يملكه معظم المؤسسات الإعلامية العربية وخاصة مع الضعف الكبير لسوق الإعلان العربي.
الوعي بهذا الأمر جعل الصحفيين الأمريكيين يعبرون في استطلاع عام أجري في شهر مايو الماضي عن قلقهم على مستقبل مهنتهم الصحفية، وخوفهم من انهيار “الصحافة” وإعراض الناس عنها عندما تفقد مصداقيتها بينهم، والإقبال على أشكال جديدة يرونها أكثر مصداقية مثل منتديات الإنترنت وغيرها.
وكان تركيز 66% من الصحفيين الأمريكيين على الضغوط المالية التي تعيق التغطية المتميزة للأحداث وتجعلهم تحت أسر الميزانيات المتواضعة.
لقد جاء هذا الإحساس مع إحصاءات إلغاء 4% من وظائف الصحافة المكتوبة في أمريكا، و57% من الوظائف في الإذاعات، وانخفاض عدد المراسلين بنسبة 35% مع ازدياد عدد المواضيع التي صارت من نصيب كل صحفي بنسبة 30%.
وانخفاض الميزانيات له أثره المباشر على المهنة الصحفية ومصداقيتها لأن تدقيق المعلومة والتأكد من مصادرها وكثافتها وشموليتها في وقت قياسي متوافق مع سرعة العمل الإخباري يحتاج لموارد بشرية مكلفة، وعدم توفر هذه الميزانيات كفيل بإلغاء المصداقية والخسارة في المنافسة.
لقد دخلت الصحافة العربية في “دورة رديئة” فضعف الدخل والأرباح يجعلها تقلل من المصاريف وتركز في عملها الإخباري على ما تجود به وكالات الأنباء وعلى الموضوعات المثيرة والخفيفة دون التركيز على المصداقية والدقة، وهذا بدوره يزيد من نفور الناس على المدى الطويل من الصحافة بأشكالها المتعددة، مما يؤدي لانخفاض مداخيلها في النهاية ويزيد المأزق حدة، ويخلق أزمة قد يكون لها نتائج سلبية متعددة في المستقبل.
لقد استطاعت الصحف الأمريكية إثبات مصداقيتها العالمية وصار تقرير تنشره جريدة مثل “نيويورك تايمز” _ مثل خبرها عن المؤامرة الليبية على السعودية _ يهتز له العالم بسبب شعور الجميع أن تقاريرها لها احتمالية عالية من الصحة.
لم يكن هذا ممكنا لولا اتباع إجراءات متشددة في تدقيق المعلومات ومصادرها وتصنيفها وبناء قاعدة معلومات مكثفة وتعيين كبار الباحثين لتدقيق كل معلومة قبل نشرها.
هذا الأمر موجود في معظم وسائل الإعلام الغربي و”معدومة تماما” في وسائل الإعلام العربي.
وطبعا أنا لا أتجاهل هنا أثر الضغوط الرقابية على مصداقية الإعلام، والضغوط الرقابية لم تعد فقط عبر الموظفين الرسميين والإجراءات القانونية، بل أصبحت عبر الضغط السياسي واستخدام النفوذ الإعلاني والمالي وغير ذلك من الوسائل.
لقد شعر الأمريكيون في نفس الاستفتاء المشار إليه أعلاه أن هذا الضغط له آثاره السلبية على مهنتهم أيضا، حيث قال 55% من الصحفيين الأمريكيين المشاركين في الاستفتاء بأن الصحافة الأمريكية كانت مجاملة للرئيس جورج بوش، خلال السنوات الماضية في تغطيتها الصحفية، وهذا رغم الحرية الصحفية القانونية غير المحدودة التي تتمتع بها وسائل الإعلام الأمريكي.
تقارير أخرى تشير إلى أن الأعمال التي تقوم بها الجماعات الإرهابية ضد الصحفيين، وبعض ممارسات قوات جيش التحالف في العراق جعل العمل الإعلامي في العراق مهمة صعبة جدا، وأدى لانسحاب الكثير من الصحفيين الغربيين بسبب تهديدات الخطف والقتل.
لقد أثار هذا عجب الصحفيين الغربيين لأنهم في العادة يلقون الترحيب من “الطرف الأضعف” _ كما حصل في البوسنة _ وليس العكس بحكم أن التغطية الإعلامية الصادقة تؤدي لفضح ممارسات الجانب الأقوى وتزيد من التعاطف مع الجانب الأضعف.
إنني أدعو الهيئات الإعلامية العربية لإيجاد آليات تضغط على وسائل الإعلام العربي لزيادة مصداقيتها من خلال تقارير تشير للممارسات الخاطئة _ على سبيل المثال _ وأدعوها لبناء صلة وصل مع الهيئات الإعلامية الغربية حتى تشارك في التضامن العالمي لحماية المهنة الصحفية، وأدعو الحكومات العربية لدعم ذلك وتمويله لأن انهيار الصحافة يعني ببساطة لجوء الناس لـ”الخيارات البديلة” مثل منتديات الإنترنت ومجموعات البريد الإلكتروني وغيرها من الأساليب التي يسهل استغلالها لنشر المعلومة الكاذبة وتحفيز الناس عاطفيا في اتجاهات خطيرة، وهو ما أثبتته التجربة حتى الآن.
لقد انهارت أمور كثيرة في حياتنا، وأتمنى بحق أن نحمي مسيرة الإعلام العربي من الانهيار، لعل الإعلام يساعدنا يوما في الخروج من “الوحل”.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية