استطاعت عدد من البرامج التلفزيونية المعنية بتقديم السير الذاتية للمشاهير المعاصرين في أمريكا أن تحقق أرقاما قياسية لهذا العام في اجتذاب الجمهور الأمريكي، كما نال عدد منها جوائز «إيمي» لهذا العام التي قدمت مطلع هذا الأسبوع “إيمي مجموعة جوائز سنوية لأفضل البرامج التلفزيونية الأمريكية وهي تقابل أوسكار السنوية للأفلام السينمائية”.
هذه البرامج التي انطلقت عبر كل المحطات التلفزيونية الأمريكية المتنافسة بحدة على اكتساب عطف المشاهد الأمريكي ومن ثم جيوب الشركات المعلنة، انطلقت بناء على فهم تلفزيوني قديم، وهو أن الناس يحبون أن يفهموا العالم من خلال عيون شخصيات معينة ويحبوا أن يروا التاريخ من خلال البصمات وخطى الأرجل التي تركتها هذه الشخصيات عبر السنين.
الناس تحب المشاهير، وتحب أن تعرف كل شئ عنها، بدءا من عاداتها وقصص حياتها الشخصية مرورا بلحظة النجاح وانتهاء بالأفكار والمشاعر التي تتفاعل في أعماقها.
التلفزيون الأمريكي أدرك هذا السر واستطاع من خلال هذه الفكرة تقديم أكثر من 12 برنامج حققت هذا العام أرباحا تجاوزت أرباح بعض البرامج الدرامية والكوميدية ذات الشعبية الواسعة.
كانت الفكرة قد بدأت ببرنامج عمره أكثر من 12 عاما اسمه «بيوغرافيا» في قناة أي آند إي ،الكلاسيكية والتي فوجئت بالجمهور العريض الذي بدأ يتكون لبرنامجها فباعته بعد ذلك على أشرطة فيديو وأقراص مدمجة، ثم نشرت مجلة تحت الإسم نفسه يقدر عدد قراءها اليوم بأكثر من مليوني قارئ، ثم وضعت الحلقات على الإنترنت ليتم استعراضها مقابل اشتراك شهري يرتفع تدريجيا مع مرور الأشهر بسبب الإقبال الجماهيري عليه.
هذه التجربة الناجحة أغرت الجميع بالإنطلاق نحو تحقيق فكرة مماثلة، وظهرت برامج في القنوات التجارية تركز على رجال الأعمال، وأخرى في المحطات الفنية والموسيقية تركز على نجوم الفن، وثالثة في القنوات النسائية تركز على النساء، وفي قنوات الأطفال كان هناك تركيز على طفولة العظماء، ولم تنس القنوات الرياضية أبطال الرياضة، كما لم يفت على القنوات السياسية أن تلتفت لصانعي القرار في العاصمة واشنطن عبر التاريخ الأمريكي.
إحدى القنوات الفكاهية ركزت في برنامجها على كبار الكوميديين، فيما تناولت قناة وثائقية عددا من الموضوعات الجادة من خلال سير أشخاص بارزة فيها فالعملية الإبداعية مثلا شرحت من خلال سير عدد من المبدعين وشرحت عملية صيد الأسود من خلال سير عدد من أشهر صيادي الأسود في العالم.
هذه البرامج حققت شهرتها الواسعة لأن الشباب يرون في هؤلاء الناجحين الذين صنعوا الأحداث وعناوين الصحف العريضة أملا لهم في مستقبل أفضل، ويرى فيه كبار السن قصصا لناجحين عاصروهم وشاركوهم “عبر الإعلام” ضحكاتهم وأحزانهم وأجمل لحظات حياتهم.
في الفترة الأخيرة فجعنا بفقد عدد من الرجالات ذوي الأثر البالغ في حياتنا بدءا بفضيلة الشيخ الشعراوي، وسماحة الشيخ ابن باز، والمشائخ علي الطنطاوي، ومصطفى الزرقاء، وعطية محمد سالم، ومناع القطان، ومرورا بالمترجم منير البعلبكي، وانتهاء بأمير الشباب فيصل بن فهد، رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته.
الأثر العميق الذي تركه فقد هؤلاء بدى واضحا في مقالات الكتاب وأخبار الصفحات الأولى وحتى رسائل القراء، ويؤكد المكانة التي تحملها هذه الشخصيات في قلوبنا، ولكن محطاتنا الفضائية _ ولها سوابق عديدة في ذلك _ بقيت غافلة تماما عن هذا الجزء الهام من حياتنا وكأن الأمر لايعنيها من قريب أو بعيد.
اقترابنا من الأيام الأخيرة من القرن العشرين الذي تشكلت فيه ثقافتنا المعاصرة ونجاح برامج السير الذاتية الغربية وتأثرنا العميق الذي تراه في كل مكان بفقد رجالاتنا هي دعوة حقيقية للمحطات العربية أن تفكر في إعداد برامج وثائقية تشبع لدى الجمهور العربي العطش والحنين لمعرفة المزيد عن تاريخه وعن رجالاته وعن قصص النجاح والألم التي عاشها هؤلاء الذين يمثلون قممنا الزمانية والمكانية.
لكي تتمكن المحطات التلفزيونية العربية من تقديم برامج ناجحة تجتذب جمهورا واسعا فلابد من توفر العوامل التالية والتي كانت أيضا عوامل في نجاح البرامج الأمريكية:
- التخلي عن الأسلوب الممل للبرامج الوثائقية.
هذه البرامج تحتاج لتفاعل حي وحركة سريعة تنتقل من مشهد إلى آخر بحيث لايزيد المشهد عن دقيقة إلى دقيقتين.
المشاهد يفترض أن تتنقل من شخصية إلى أخرى تتحدث عن نجم الحلقة وبين نجم الحلقة نفسه _ إذا كان حيا _ وبين أي صور فوتوغرافية أو لقطات للكاميرا الحية حول نجم الحلقة وبين لقطات تلفزيونية للأحداث التي عاصرت حياة بطل الحلقة.
- التركيز يجب أن يتوزع بين كل أنواع الشخصيات، سواء الموجودين منهم أو الذين انتقلوا لرحمة الله تعالى، بحيث تتناول هذه البرامج الشخصيات الإسلامية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والرياضيين، ونجوم عوالم الفن، بالإضافة للفئة المهملة دائما في المحطات العربية: المبدعون والعلماء والأكاديميون الذين تركوا أثرا بارزا في تاريخنا المعاصر حتى لو لم يكن قد سمع مذيع أو مذيعة البرنامج باسمه من قبل.
- البرامج يجب أن تكون صريحة وموضوعية وتتناول الأسئلة التي تمتلأ بها أذهان الجمهور المتعطش حول هؤلاء الأشخاص.
المعلومات تأتي من الشخص وأقربائه وأصدقائه وأعدائه أيضا، وتأتي من الأكاديميين وعلماء النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والشريعة الذين درسوا جوانب لها علاقة بحياة الرجالات التي تتمركز حولها هذه الحلقات والقضايا التي عاشوا من أجلها وحققوا بسببها نجاحهم.
- أخيرا ليس الهدف دائما هو العرض السردي لحياة الشخص نفسه بقدر ماهي أيضا محاولة لربط هذه الحياة بأحداث تاريخنا المعاصر والرؤى التي تشكلت حولها.
هي محاولة لتقديم تاريخنا في القرن العشرين الذي أهملناه بكل معاني الإهمال “قارن بين المكتوب عن هذا القرن وبين المكتوب عن القرون الهجرية العشرة الأولى وستدرك الفرق والإهمال” برؤية جديدة لها شعبيتها وجاذبيتها لدى الجمهور العام.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية