تصادف لي هذا الأسبوع أن التقيت بعدة زملاء يعملون على مشاريع ذات علاقة بالتعليم عبر الوسائط الرقمية، وبعض هذه المشاريع مذهل بما تعنيه الكلمة من حيث حجم الاستثمار وحجم الجهد والإتقان، فواحد منها مثلا تضمن وضع كل المناهج الدراسية على الإنترنت وعلى تطبيق خاص بـ”IPad” مع ميزات عديدة لم تكن ممكنة يوما من حيث التواصل السريع والمباشر بين الأستاذ والطالب حول صفحة ما، وإمكانية إضافة الشروح والتعليقات وغيرها، وكان هناك مشروع آخر يتضمن تقديم الدروس الخصوصية عبر الإنترنت، وآخر حول التعليم بألعاب الفيديو، وغير ذلك.
لكن الجميع بلا استثناء ركز على نتيجة واحدة:
الحكومة وضعت ميزانيات ضخمة لإصلاح التعليم، وتنتظر الكثير، وهو أمر مشجع، ولكن المسؤولين في وزارة التربية والتعليم “ولا أعني الوزير هنا بل من دونه ممن قابلهم هؤلاء المبادرون” كانوا غير مكترثين بأي من هذه المبادرات، ولم يتعاملوا معها بجدية، ولم يعطوهم الفرصة لتطبيقها.
الشكوى كانت أكثر مرارة من برنامج “تطوير” والذي رصدت من خلاله الدولة ميزانية استثنائية لتطوير التعليم، والذي يقول هؤلاء المبادرين أن البيروقراطية والتعامل السلبي هو السمة الغالبة عليه، حتى يكاد يوصيك الشخص ألا تحاول وتطرق بابه لأنك ستجر أذيال الخيبة والإحباط.
الحل الوحيد في رأيهم هو أن تطلق مبادرتك بنفسك، أن تعمل مع الشركات الكبرى مثل شركات الاتصالات، أن تقدم ما لديك للمعلم نفسه، لأن المعلمين بينهم الآلاف الذين يبحثون بإخلاص عن مصلحة الطلاب، وأن تبحث عن سوق لمشاريعك في الدول العربية والإسلامية الأخرى التي تريد تطوير تعليمها.
قد يرد المسؤولون في الوزارة أو برنامج تطوير برفض هذا التوصيف السلبي، ولكنني بذلت وقتا كافيا للبحث عن أي مبادرات ضخمة قامت بها الوزارة أو البرنامج لتطوير التعليم من خلال الوسائط الرقمية، وكانت النتيجة: لا شيء.
هل هذا موضوع مهم ؟، أليست هناك أولويات هامة مثل تطوير المعلم والمناهج الدراسية وغيره من القضايا المزدحمة على أجندة تطوير التعليم ؟.
في رأيي الشخصي: تطوير التعليم من خلال الوسائط الرقمية يحمل أولوية أكبر من باقي القضايا وذلك لثلاث أسباب.
– الأول: من خلال الكثير من الدراسات والتجارب العملية حول العالم، والتي اطلعت عليها ضمن مهمة استشارية خارج المملكة، يمكن بالفعل تطوير الكثير من عناصر العملية التعليمية دفعة واحدة من خلال تطوير التعليم على الوسائط الرقمية، لأن الوسائط الرقمية تأتي ببيئة جديدة، يتم ترتيبها من الصفر بحيث تتلافى الكثير من المشكلات، تماما كما لو بنيت منزلا من جديد، بدلا من أن تصلح منزلا قديما متهالكا.
ليس هذا فحسب، بل إن الدراسات على مسألة وضع المناهج على أجهزة IPad والكمبيوتر أثبتت إيجاد توفير ضخم في تكاليف طباعة الكتب الدراسية وتوزيعها، وتكاليف الاستفادة من المعلمين الأكفاء.
– الثاني: أن العالم الرقمي يتطور بسرعة هائلة، بحيث أن الشبكات الاجتماعية واستخدام مواقع الإنترنت والوسائط الرقمية أصبحت جزءا من حياة الطالب، وتحتل عددا كبيرا من ساعاته، والعملية التعليمية دخلت في منافسة حقيقية مع هذا العالم الجديد، وفي حال عدم تطوير العملية التعليمية، فهذا معناه المزيد من التحديات أمام المعلم وتحقيق أهداف التعليم.
من جهة أخرى، فإن عددا من التجارب أثبتت بقوة أن تطوير التعليم رقميا سمح له أن يكون جزءا من نمط الحياة الجديد، وكانت النتائج أفضل بكثير.
– الثالث: هناك جهود ودراسات بشكل مستمر في كثير من دول العالم حول ما يسمى بـ”الفجوة الرقمية”، وهي تقول باختصار: أن الفجوة بين من يستخدمون الوسائط الرقمية وبين من لا يستخدمونها “وهم غالبا من الفقراء” تساهم بسرعة في وجود فجوة معرفية، وبالتالي فجوة في احتلال مكانة مناسبة في سوق العمل، مما يعني أن الفقراء سيزدادون فقرا لعدم تمكنهم من امتلاك المهارات الرقمية المناسبة التي تمكنهم لاحقا من الحصول على مكانهم في الحياة العملية.
لهذا فإن جعل الوسائط الرقمية والارتباط بالتكنولوجيا جزءا من التعليم أمر أساسي لحل هذه المشكلة، وسأتناول إن شاء الله موضوع الفجوة الرقمية Digital Gap بالتفصيل في مقال قادم.
هذا كله يؤكد أن إصلاح التعليم في هذا الاتجاه أمر شديد الحيوية، ولا يمكن تجاهله، ولا التباطؤ فيه، ومن يقصر في هذا الأمر مهما كانت الأسباب فإنه عمليا يترك آثارا سلبية على مستقبل جيل كامل، وعلى مستقبل التعليم، فضلا عن كونه يخون الأمانة الموكلة إليه من خادم الحرمين الشريفين الذي طالب ومنح وشجع لتطوير التعليم.
أتمنى فعلا ألا يفوتنا القطار..!