في الثالث من مايو 1999، كنت في مدينة نورمان بولاية أكلاهوما الأمريكية، وشهدت يومها إعصارا تاريخيا “تورنيدو” يعتبر الأكبر حتى اليوم في تاريخ الولاية، ولما نجونا منه بفضل الله، كانت بعض المدن الصغيرة القريبة مثل “مور” قد مسحت تماما من على وجه الأرض.
هذا “التورنيدو” صار بتلك الضخامة والقوة لأنه جاء نتيجة اجتماع ثلاث إعصارات ضخمة وتحولها إلى إعصار واحد في صدفة لا تتكرر كثيرا ليستطيع بعدها تدمير كل شيء يمر به.
هذا مثال أعتبره شبيه بالتأثير الإعلامي الذي أحاط بالربيع العربي منذ أن بدأ في آخر 2010، لقد استطاعت التكنولوجيا خلق ظرف إعلامي غير مسبوق توافق مع الظرف التاريخي الذي يعيشه العالم العربي، حيث عانت كثير من دولة من أنظمة مترهلة ويحيط بها الكثير من الفساد والظلم والحماقة الإدارية والسيطرة الأمنية على التفكير.
هذا أيضا توافق مع ظرف تاريخي آخر تمثل في “فقدان الأمل” كما أسميه، فالمصريون كانوا في حالة يأس لما أيقنوا أن الحكم سينتقل للابن، والأمر نفسه كان يسري في اليمن، بينما انتظر السوريون الرئيس الشاب عقدا من الزمن أملا في أن يحقق شيئا من وعوده دون أي نتائج، وكان فقدان الأمل أصعب بكثير في الحالة الليبية والتونسية.
هذه الظروف كلها توافقت بشكل غير مسبوق خلقت الربيع العربي، في “لحظة تاريخية حتمية” صنعت كل ما نعيشه اليوم من تغييرات سريعة على الأرض.
بالنسبة للظرف الخاص بالتكنولوجيا والإعلام، فأستطيع أن ألخص ذلك التأثير الرهيب للتكنولوجيا والذي اجتمع ليكون إعصارا ضخما في ثلاث مستجدات رئيسية جاءت مع العصر الرقمي بالإضافة لتكنولوجيا الأقمار الصناعية التي سمحت ببث القنوات التلفزيونية الإخبارية والتي كان لها دور هائل في صناعة مفردات الربيع العربي، هذه المستجدات هي:
- تقنية الصورة سهلت كثيرا – كما هو معلوم – نقل كل لحظة بشكل لم يكن ممكنا في السابق، ووجود حوالي 100 ألف فيديو من سوريا رغم كل ما يبذله النظام هناك لمنع التصوير، دليل على تلك السهولة التقنية، ولولا تلك الفيديوهات، لاستطاع النظام الحديدي القمعي في سوريا تكرار ما فعله في حماة في 1982 دون أي يشعر العالم بشيء “هو يكرر ذلك عموما في حمص بعد أن أيقن أن المجتمع الدولي يتحرك ببطء شديد سيسمح له تنفيذ ما يريد ليضع العالم كله أمام الأمر الواقع”.
هذه السهولة في صناعة الصورة والبث المباشر استفادت منها القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الرقمي على حد سواء.
- الإعلام الاجتماعي صنع أثره الضخم من خلال عملية التجييش الشعبي اليومية للجمهور داخل دول الربيع العربي وخارجها بحيث كان العالم الافتراضي يتحرك بشكل جماعي باتجاه واحد.
كان لتلك التعبئة الرقمية أثر حاد بلا شك في إشعال فتيل الثورات العربية، واستطاعت أن تنجح في ظل كل الظروف التاريخية التي تعيشها المنطقة.
- التكنولوجيا حولت العالم إلى قرية صغيرة، وساهم ذلك التقارب في وضع المجتمع الدولي في حال لا يمكنه من تجاهل ما يحدث، لأن كل الشعوب صارت تعيش الحدث مع بعضها البعض.
ولكن ذلك كله أيضا اجتمع مع قوة التأثير الهائلة التي تملكها القنوات الفضائية والتي يمكن تسميته بـ”التأطير” أي وضع الأحداث في إطار معين، يتم فهم كل الأحداث من خلاله، والقنوات الفضائية تملك ذلك لأن رسائلها تذهب لملايين المشاهدين في وقت واحد “وليست رسائل متفرقة كالإعلام الرقمي”، ولأنها تملك المصداقية، وتعتمد على الخبراء والإعلاميين في دعم رسائلها.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إذا استطاع ذلك الإعصار الإعلامي الضخم أن يطلق الربيع العربي، فهل هذا معناه أن التأثير سيستمر بنفس الشكل أم أنها صدفة وتنتهي ؟.
الجواب في رأيي الشخصي، أن العالم قد تغير للأبد، وهذا التأثير سيستمر ولا يمكن مواجهته، وكل ما سيحصل أن كل الأطراف ستملك مهارة أكبر في التعامل مع معطياته وستستطيع خوض المعركة الإعلامية بذكاء أكبر واستعداد أقوى، وهذا ما نراه في الحالة السورية خلال الأشهر الخمس الأخيرة، حتى صار هناك شعور عميق لدى الثوار السوريين على الأرض أن التصوير ونقل الصور للعالم يستحق “الشهادة” لأن هذا الدور قد يكون هو الأمل الوحيد في أن تستطيع الثورة الحصول على دعم خارجي لها.
في زمننا هذا: لم يعد مهما ما يحصل على الأرض، بل ما يهم كيف تنقله الصورة، وكيف يؤطره الإعلام، وكيف يتفاعل معه المجتمع الافتراضي..