بريدة مدينة كالحلم، عشت فيها أكثر من خمسة عشر عاما من سنوات النشأة، فلا زالت تلك السنوات تطالبني بالوفاء لتلك المدينة التي منحتني دروس الحياة الأولى، وأقل الوفاء الذي يدين به كل من عشق بريدة وتفاصيلها أن يقدمها جميلة أنيقة مبهرة للعالم.
هذا بالضبط ما يعنيه أن تتحول المدينة إلى علامة تجارية، أي أن تبذل الجهود لتصبح المدينة شهيرة بشكل إيجابي بين عموم الناس، لأن بناء صورة ذهنية إيجابية معينة عن مدينة أو دولة من خلال حملة تسويق مميزة يعني أن الكثير سيتحقق لهذه المدينة تجاريا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا على المستوى الإقليمي والعالمي.
وبالرغم من أن هذه العبارة تبدو بديهية وخاصة من الناحية الاقتصادية، إلا أنها تمثل جوهر جهود ضخمة لتحسين الصورة الذهنية للمدن والدول تبذل حول العالم، وأصبحت تمثل فنا بذاته يطلق عليه “تسويق المدن والدول” City and Country Branding.
تقوم الصورة الذهنية في الأصل على عبارة قصيرة ومختصرة جدا لا تكاد تتعدى كلمات معينة، فمثلا المدينة الفلانية خير مكان لسياحة الأسرة، أو هذه المدينة هي مركز إتقان الصناعات الإلكترونية.
لاحظ مثلا الصورة الذهنية لألمانيا كبلد صناعة السيارات. هذه الصورة الذهنية لا تعني أن ألمانيا متميزة في كل شيء، ولكن التركيز المستمر على هذه الصورة البراقة سيجعلنا نحمل صورة إيجابية رائعة عن ألمانيا عموما.
لاحظ أيضا أن العبارة هي عبارة يمكن تسويقها ويمكن للجمهور تصديقها، لأن الصورة الذهنية التي لا يمكن حماية مصداقيتها تفشل في النهاية وقد تؤتي ثمارا عكسية.
بالمقابل أثبتت الدراسات العلمية في مجال تسويق المدن أن نسبة عالية من الناس على مستوى النخبة والعامة تصنع قرارتها التجارية والسياسية والسياحية فيما يتعلق بالمدن والدول على أساس الصورة الذهنية وليس على أساس المعطيات الحقيقية على الأرض، وأن كثيرا من الناس قد يتراجع عن زيارة دولة أو الارتباط بعمل تجاري مع أحد مواطنيها بسبب صورتها الذهنية.
هناك أوجه شبه بين تسويق المنتجات وتسويق الدول والمدن، فخبراء تسويق المدن ينصحون بوضع صورة ذهنية إيجابية ومختزلة، واختيار الصورة الذهنية يتم من خلال البحث عما تريد المدينة تحقيقه من الصورة الذهنية، والتحديد الدقيق لفئات الجمهور الذي يراد له أن يؤمن بهذه الصورة الذهنية، ثم وضع خطة مكثفة على كافة الأصعدة وطويلة المدى للوصول إلى هذه النتيجة.
من جهة أخرى هناك فرق بين تسويق المنتجات وتسويق الدول والمدن وهي أن المنتجات يمكن تعديلها وتطويرها عبر الزمن، ولكن الصورة الذهنية للمدن والدول أكثر ثباتا ولا يتصور الجمهور تعديلها ببساطة، فمثلا لو قمت بحملة ضخمة لجذب السياح لدولة معينة وجاءوا ولم تعجبهم، فإن تعديل هذه الصورة لاحقا سيكون صعبا جدا لأن الناس في العادة – حسب ما تثبته استطلاعات الرأي _ لا تغير رأيها حول دولة أو أمة أو مدينة بسهولة.
عالميا، هناك قصص نجاح مبهرة في تسويق المدن الكبرى أو حتى المدن الصغيرة.
هناك قرية صغيرة في ولاية كولورادو الأمريكية تحولت لأهم منطقة جذب لأثرياء أمريكا بعد ما سوقت نفسها على أنها منطقة سياحة الشتاء _ التزلج والمنتجعات الشتوية _ للأثرياء، وهناك محاولات عربية كثيرة، أكثرها ضعيف، وإن كانت دبي تعتبر الأفضل حتى الآن عربيا في حملاتها التسويقية.
وقفت دعائم الحملة التسويقية لدبي على ثلاثة أهداف رئيسية: جعل دبي اسم معروف عالميا، وإبراز دبي كمكان عالمي لتحقيق الأرباح، وتقديم دبي كوجهة سياحية عالمية.
لقد عملت الحملة التسويقية والإعلامية المرتبطة بدبي على الحرص على ترديد اسم المدينة في أكبر رقعة من العالم بكل طريقة ممكنة، وبعض هذه الطرق كان مبدعا وجديرا بالإشادة، وفي نفس الوقت ساهمت الحركة العمرانية الضخمة وكون دبي تقدم خدمات تجارية مميزة مقارنة بالمدن الأخرى في المنطقة في دعم تلك الحملة التسويقية.
هذا في النهاية كان له دور كبير على بناء صورة ذهنية إيجابية بالرغم من حداثة المدينة وكونها في النهاية تحمل صفات العالم النامي التي ينتقدها الغربيون، وبالرغم من عدم جاذبية الطقس أو الطبيعة أو التركيبة الديموغرافية للمدينة وضعف الحركة الثقافية فيها.
الدليل الأكيد على نجاح الحملة هي إقبال مختلف الناس في أنحاء العالم على دبي التجارية ودبي السياحية ودبي كمكان عمل أو كمحطة لتوقف رحلات الطيران أو لحضور معرض تجاري أو التسوق.
واحدة من أهم نقاط نجاح دبي في بناء حملاتها التسويقية هي اجتذابها لعدد هائل من أفضل شركات الإعلان والعلاقات العامة والمؤسسات الإعلامية والتي تحولت في النهاية لوقود يساعد هذه الحملة على المضي قدما عاما بعد عام بنجاح يصعب على عاصمة أخرى تحقيقه بدون جيش خبراء التسويق والإعلان الموجود في دبي.
هذا يتوافق مع النتائج العالمية في هذا المجال، حيث يؤكد ريتشارد فلوريدا، أحد علماء التسويق البارزين، في كتابه “صعود الطبقة المبدعة” (صدر عام 2002)، أن اجتذاب المدينة للطبقة المبدعة يكاد يكون العامل الأهم في نجاح الحملة التسويقية للمدن، بل إن المؤلف ربط بين “موت المدن” وبين هروب المبدعين والمثقفين من المدينة.
بريدة شأنها شأن كل المدن السعودية الأخرى تحتاج لهذا التفكير التسويقي، تحتاج لتبحث عما يميزها وتعمل على تنميته وتثبيته ثم تسويقه للجمهور.
في بريدة التي أعرف نسبة عالية من الإبداع وحماس الشباب والذكاء التجاري، وهذا كفيل بأن تجد بريدة اللمسة الجوهرية التي تقدم لها الشهرة سعوديا في المرحلة الأولى، وعربيا ثم عالميا في المراحل اللاحقة، وحينها ستتحول بريدة إلى علامة تجارية..!