منتظر الزيدي: قديس أم شيطان؟

من قسم منوعات
الإثنين 22 ديسمبر 2008|

قذف صحفي عراقي بحذاءه نحو الرئيس الأمريكي فأصبح خلال ساعات قليلة حديث العرب الذين امتلأت قلوبهم بالغيظ والألم ورأى أكثرهم في الحدث انتصارا للكرامة العربية، وانبرى الشعراء يكتبون شعرهم، والكتاب يخطون مقالاتهم، والناس يرتادون مواقع الإنترنت ليعلنوا سقوط الهيبة الأمريكية أمام الحذاء العراقي وسعادتهم بأول حذاء ينطلق نحو رئيس دولة على أرض عربية.

وأنا لست هنا بصدد قول رأيي في الموضوع، وأظن أنه بعد أسبوع من الحدث، فإن كل الآراء قد قيلت، بين مادح رأى في الزيدي، بطلا أحضر للعرب النصر على طبق من ذهب، وبين ذام يرى فيه رجلا باحثا عن الشهرة وفعلا “متخلفا” وأمرا لا يليق بالصحفيين الذين يعطون عادة صلاحيات الوصول للزعماء على أساس حيادهم وقيمهم المهنية.

أيضا لن أقول رأيي في من قالوا آرائهم، فقد دارت المعارك بسرعة وكادت أن تضع أوزارها، فالمادحون وصفوا الذامين بأنهم عملاء ومنافقين لأمريكا في عبارات حادة ومقذعة، والذامون وصفوا المادحين بأنهم يسعون وراء نصر وهمي، وصاروا كالغرقى الذين يتمسكون بقشة.

لكن ما أريد أن ألفت النظر إليه هي ظاهرة غريبة ومزعجة في الكيفية التي تعامل بها كثير من الناس بمن فيهم المثقفون والصحفيون والنخبة مع الحدث، وهي ظاهرة تتكرر كل مرة تتحرك فيها المياه الراكدة للرأي العام في العالم العربي، حيث ينقسم الناس مباشرة إلى فريقين لأحدهم اللون الأبيض والآخر اللون الأسود وتنعدم كل الألوان الأخرى.

لقد تحدث معظم الناس عن حادثة قذف الحذاء بتبسيط شديد، فهم إما أنهم مدحوا إلى أقصى حد أو ذموا إلى أقصى حد، وضاعت الآراء المعتدلة التي تنظر للموضوع بعمق وترى فيه جوانبه المختلفة في الزحام حتى لا يكاد يأبه لها أحد.

هذه مشكلة حقيقية في الطريقة التي يتعامل بها الناس في العالم العربي مع الأحداث، وإذا كان هذا مقبولا من الرجل العادي الذي يلجأ للتبسيط والتعميم نظرا لمحدودية ثقافته، فإن هذا لا يقبل بحال من الأحوال من النخبة التي يفترض فيها أن تحلل الأمور بعيدا عن العواطف والرؤى الأيديولوجية والتأثر بالضغط الاجتماعي.

هذه ليست أول مرة يحصل فيها مثل هذا التباين، فلا يكاد أمر تقذف به رياح الأحداث إلا وانقسم الناس حوله صفان، صف يراه خيرا محضا وصف يراه شرا محضا، ومن يحاول أن يقف في الوسط إما أن يواجهه الناس بالإهمال لأنه بلا طعم ولا رائحة تشبع العواطف المتدفقة حبا أو غضبا، أو أن يواجهه الناس بالاتهام بأنه “يمسك العصا من الوسط” بينما قلبه ميال بشكل خفي لأحد الفريقين.

في السابق كنت أتخيل أن هذا يحدث فقط في الأمور الكبرى، مثل الحروب “حرب الخليج وحرب العراق وحرب لبنان الأخيرة” أو الأنظمة السياسية أو الاتجاهات الفكرية، أما أن يصل الانقسام والاتهامات التي تستخدم أقسى الشتائم إلى حادث صغير يستولي فجأة على اهتمام الناس وكل طاقتهم الجدلية وقدراتهم الشعرية فهذا أمر مفاجئ ويدعو للكثير من الحزن على حالنا.

أليس غريبا أن الاتفاقية الأمنية بين العراق وأمريكا _ والتي تم توقيعها خلال قذف الحذاء الشهير _ أو حصار غزة الرهيب لم يستولى على جزء بسيط من هذا الاهتمام العربي الجارف؟ أليس غريبا أن يعيش العرب في تخلف متعدد الأوجه وضارب الجذور ثم لا يجدون في تفاصيل هذا التخلف ما يثير اندفاعهم، ثم يندفعون لأجل عمل عاطفي فردي تحول فجأة إلى بطولة قومية خالدة؟

سؤال آخر خارج تماما عن الموضوع: من المعتاد أن يعشق السجين الحرية وينتظر اللحظة التي يتنفس فيها الهواء الطلق، ولكن الغريب أنني لم أجد مقالا واحدا يتحدث عن الحادثة كدليل بأن الإنسان العراقي صار يمتلك حرية أكبر مقارنة بما كان عليه الحال قبل خمس سنوات حين كان الإنسان يختفي من على وجه الأرض لو تصرف بعشر ما تصرف به الزيدي.

لقد منحتنا تصرفات الأمريكيين في الشرق الأوسط الكثير من الألم والشعور بالهزيمة ودفعنا ثمن استراتيجياتهم السياسية أرواحا ودماء غالية، وكانت الإدارة الأمريكية التي سترحل خلال شهر سببا في زيادة عمق جراحنا.

إذا سألتني كيف أذم أمريكا وأذم تمجيد الزيدي في الوقت نفسه، وهل أنا مع أو ضد الزيدي، فأنا أرجوك أن تقرأ المقال مرة أخرى..!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية