هناك مقولة مشهورة شعبيا بأنه لا يمكن شراء السعادة بالمال، ورغم أن هذا صحيح طبعا لأن السعادة هي شعور عميق بالانسجام والرضى وهدوء البال وربما الحماس الإيجابي على المدى القريب والبعيد، إلا أن الباحثين أثبتوا من خلال ما يزيد عن 200 دراسة علمية أن هناك علاقة متبادلة بين السعادة والثراء أو النجاح في الحياة: السعداء يحققون نجاحا أفضل في الحياة العملية، والناجحون في الحياة العملية أسعد من غيرهم من الناس.
وإذا كانت نتائج الدراسات العلمية دائما تتناول “أغلبية الناس” ودائما لها استثناءات، فإن تضافر الدراسات في اتجاه معين يعني أنها في الغالب دقيقة ويمكن الاعتماد عليها بما في ذلك الدراسات التي تتناول قضايا معقدة مثل “السعادة”.
في السابق كان علماء النفس يقولون بأن العامل الأهم في حياتنا الذي يؤدي إلى السعادة هو “علاقاتنا بالآخرين”، صداقاتنا، علاقاتنا الأسرية، وعلاقتنا الحميمة، وقد تناولت في مقال سابق بالتفصيل لماذا تمنحنا العلاقات الإيجابية والمتنوعة بالآخرين شعور السعادة والرضى، وكيف تؤدي العلاقات السلبية أو المحدودة إلى الوحدة والتعاسة والأمراض النفسية بأنواعها.
في السنوات الأخيرة بدأ اتجاه جديد في نتائج الدراسات التي تضع السعادة تحت عدسة المجهر، لتجد أن العامل الأهم المرتبط بالسعادة هو: “العمل”!
هذه النتيجة التي تمثل حصيلة 225 دراسة على الأقل كما تقول عالمة النفس الأمريكية الشهيرة سونيا ليبوميرسكي الأستاذة بجامعة كاليفورنيا ومؤلفة كتاب “كيفيات السعادة: الطريق العلمي لتحقيق الحياة التي تريد”، كانت مفاجأة للعلماء ولكنها لاحقا بدت وكأنها هي النتيجة الصحيحة.
تقول الدراسات بأن أولئك الذين لديهم وظائف تتميز بالاستقلالية، التنوع، الأداء المتميز، الإبداع، والإنتاجية هم في الغالب أسعد من غيرهم.
الاستقلالية تشمل الصعود في السلم الإداري، والأداء المتميز تشمل رضى الآخرين عن أدائنا، وفي النهاية المرتب المالي الذين نحصل عليه كلها عوامل هامة في تحديد “مدى سعادتنا في عملنا”، ومدى سعادتنا في عملنا هو _ حسب تلك الدراسات _ هو العامل الأهم في تحديد سعادتنا الشخصية.
لماذا نكون سعداء عندما ننجح في حياتنا العملية؟ تقول الدراسات بأن هذا النجاح يعطينيا الإحساس بهويتنا الشخصية والداخلية، ويرتب أيامنا ويمنحنا الوضوح نحو المستقبل، والأمان من الدنيا، كما يعطينا أهدافا واضحة في حياتنا.
النجاح أيضا يمنحنا في الغالب علاقات جيدة بزملائنا في العمل وأصدقائنا الذين يقدروننا معنويا، وحتى مع الأسرة التي ترى في الناجحين من أفرادها صمام الأمان وبعدا معنويا هاما للأسرة.
الجميل في تلك الدراسات العلمية أن العلاقة بين النجاح والسعادة متبادلة، فالنجاح يؤدي إلى السعادة، وكذلك أيضا السعادة تؤدي للنجاح، فالسعداء الذين يملكون حصة جيدة من الانسجام الداخلي قادرون أكثر على الإبداع والإنتاج والنجاح وتحقيق الثراء، في أغلب الأحوال وليس دائما بالطبع.
قد تتساءل عن كيفية إجراء هذه الدراسات التي تصل لهذه النتائج المعقدة، وسأعطيك هناك مثالا.
أحد الدراسات الأمريكية طويلة المدى قامت باختبار مدى شعور مجموعة من الناس بالسعادة عندما كانت أعمارهم 18 عاما، ولما عاد إليهم الباحثون بعد 8 أعوام _ أي عندما كانت أعمارهم 26 سنة _ وجد الباحثون أن السعداء من هؤلاء قبل 8 أعوام هم الآن أكثر استقلالية من الناحية المالية، وأكثر إنجازا في وظائفهم.
دراسة أخرى مماثلة وجدت أن الطلاب الذين كانوا أسعد عندما كانوا في السنة الأولى من الجامعة كانت لديهم رواتب أعلى عندما وصلوا إلأى عمر 37 سنة، أي بعد 16 سنة.
لدينا الآن أسباب أكثر لنحسد الأغنياء على غناهم والناجحين على نجاحهم وهي أنهم أيضا سعداء، والسبب كله هو ذلك العلم الجديد واللطيف جدا: “علم نفس السعادة” Psychology of Happiness.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية