الكتابة بحروف من المعاناة والعشق!

من قسم منوعات
الإثنين 17 ديسمبر 2007|

لأولئك الذين يقرؤون إبداعات الكتاب الرائعين، شعرا ونثرا، لحظات يقفون فيها مذهولين من القدرة الإبداعية للمبدع الذي استطاع أن يخلق معنى جديدا للأشياء والقضايا من حولنا.

الكتابة تشبه أحيانا السحر الذي يحول ما نراه عاديا كل يوم إلى قطعة من المعاني التي تحلق بنا إلى بعد جديد تماما.

هذه المعاني تصنعنا وتصنع لحظاتنا.

تأمل مثلا كيف حول المبدعون “الحب” إلى معنى عظيم من خلال عشرات الأبعاد، ولولاهم لكان الحب مجرد علاقة جسدية / عاطفية بين رجل وامرأة ينجذبون إلى بعضهم ثم يتركون بعضهم بعد زمن لسبب ما.

من جهة أخرى، لم يعط المبدعون نفس الجهد لمعنى آخر وهو “الصداقة” رغم أنها أجمل وأجل من الحب أحيانا، ولذلك لم تحتل نفس المكانة التي يحتلها الحب في تقديرنا المعنوي للحياة من حولنا.

لكن المبدعون العظماء لا يكتبون ويعيدون بناء تفاصيل الحياة من حولنا بناء على موهبة بحتة فقط كما يعتقد معظم الناس، ولكنها تجربة من المعاناة القاسية التي يخوضها المبدع ويخرج منها مرهقا استهلكته الأفكار والكلمات والمعاني، ولكنه في نفس الوقت يشعر بمتعة خاصة يختلط فيها عرق التعب مع رائحة الإنجاز.

معاناة المبدع تتمثل في ثلاث أبعاد تتداخل مع بعضها بشكل عجيب، بعد الخروج من الصندوق، وبعد الصورة النهائية، وبعد الثقافة، وهذه الأبعاد تتداخل بشكل مختلف من مبدع إلى آخر، كما تتداخل مع شخصية المبدع وثقافته وقدراته العقلية واستقراره العاطفي والنفسي لتخلق لنا شخصية فريدة من نوعها.

ولتفصيل الأبعاد الثلاثة، يعيش المبدع تحدي الإتيان بالجديد، لأن الإبداع مرتبط بذلك الجديد الجميل، والإتيان بالجديد يتطلب دائما الخروج عن المألوف، والخروج عن الطريقة التقليدية التي يملكها الإنسان العادي في التفكير.

هذا البعد بالذات هو الذي يضع المبدعين في حالات تشبه الجنون بينما هم يحاولون الخروج عن الأنماط السائدة في النظر إلى الأشياء من حولهم.

لهذا السبب تحاول المؤسسات التي تسعى لتشجيع الإبداع بين أفرادها إلى صنع بيئة تساعد من يعيش فيها أن ينطلق بحرية خارج القيود القاسية التي تترك آثارها على التفكير في كثير من الأحيان.

بعد الصورة النهائية مرتبط بقدرة المبدع على وضع أفكاره في الشكل الجميل الذي يعجب الناس، سواء على شكل قصيدة شعرية أو نص نثري أو رواية أو سيناريو أو لوحة جميلة أو لحن موسيقي.

من النادر أن يملك الإنسان المعاني ولا يستطيع التعبير عنها، ولكن من الشائع جدا أن يكون هناك مبدع عظيم ولكنه لا يملك الشيوع اللازم لفشله في خلق المنتج الذي يذهب بألباب الجمهور.

الثقافة من جهة أخرى بعد ثالث هام في الإبداع، فالمخزون الفكري والمعلوماتي والثقافي وفهم واقع الحياة من حولنا أساس في تقديم الإبداع الذي يستطيع تغيير مكونات الحياة من حولنا.

الإبداع معاناة، والكتابة معاناة، والشعر معاناة، ولأنها كذلك، فهي تتطلب شخصية شديدة الانضباط، قادرة على دخول نفق الإبداع بكل صعوباته وعدم الهرب منه، وقادرة كذلك على أن تعمل بشكل مكثف ليل نهار من خلال عملية تفكير وتفكيك وبناء لكل ما يدور من حولها، ومن خلال عملية إعداد منظمة على المستوى الثقافي والفكري.

ليس ذلك فحسب، فالمبدع يعيش ويتنفس من خلال جمهوره وهو يحتاج أن يكون على تواصل دائم معهم، وهذا يتطلب جهدا آخر أيضا.

ليس لدينا في العالم العربي الكثير من المبدعين العظماء بكل أسف، وأحد الأسباب أن معظم الذين يملكون الموهبة والأفكار غير قادرين على الانضباط وعملية الإعداد اليومية المكثفة، وخاصة أن التزاماتنا الاجتماعية بأنواعها تمنعنا من الدخول في نفق المعاناة الصعب.

في السابق كنت أدعي أن المعاناة غير متوفرة في العالم العربي لأن الكاتب لا يحصل على الكثير من المال، وهذا حافز هام في الكتابة، وكان لدي اطمئنان نفسي أن هذا هو السبب في فشل المبدعين العرب، ولكنني لما اقتربت من الإنتاج التلفزيوني، ورأيت ضعف النصوص التي ينتجها أكثر كتاب السيناريو العرب، رغم المال الضخم الذي يحصلون عليه، عرفت أن الأزمة ليست المال بل هي أبعد وأعمق من ذلك بكل أسف.

كل إنسان يجب أن يحاول أن يكتب وأن يبدع، لأن هذه المحاولة معناها أن يخوض بنفسه هذه المعاناة، أن يعيش تجربة محاولة إعادة صياغة عناصر الدنيا التي تموج وتضطرب من حولنا، وأن يعيش تجربة صناعة الشكل النهائي وأن يختبر ثقافته.

معظم النتاج لن يكون نتاجا صالحا للنشر في غالب الأحيان، ولكنها تجربة عظيمة يجب ألا يحرم منها أحد.

من جهة أخرى، قد تكون هذه بداية لاكتشاف متعة تزداد جمالا مع التجارب المتكررة ومع القدرة على ضبط النفس ومنحها بكاملها لهذه التجربة الخرافية.

الكتابة معاناة يستحق ثمارها من يتحمل آلامها!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية