فن صناعة المدن الحيوية!

من قسم منوعات
الثلاثاء 05 يونيو 2007|

لعل من أجمل الأشياء التي يصادفها من يذهب إلى الغرب هي تلك الحيوية والنشاط التي تنعم به المدن، ففي كل يوم هناك عشرات المحاضرات والأنشطة الثقافية، والورشات الفنية، واللقاءات الفكرية، وجلسات قراءة الكتب المفتوحة، بالإضافة للأندية الاجتماعية وأندية لممارسة كل أنواع الرياضات لمختلف الأعمار، واللقاءات الدورية للمجموعات المتخصصة، ومختلف أنواع الأنشطة التي تسمح للموهوبين باستعراض مواهبهم الفنية أو العلمية أو غير ذلك.

هذه الحيوية تجعلك قادرا على الاستمتاع بالحياة مع الاستفادة منها، وتسمح لك بالنوافذ التي تستنشق منها حرية الحركة ورائحة الفكر والفن والثقافة، وتمنحك الدافع لتقدم ما لديك وتصبح جزءا من هذه الديناميكية التي لا تعرف الهدوء في ليل أو نهار.

ما الذي ينقص المدن العربية أن تكون بمثل هذه الحيوية؟

لدينا طبعا الشباب، الوقود الأصيل لحيوية المدن، وغالب شبابنا لا تنقصهم الطاقة، ولا تنقصهم رغبة العطاء، ولا الذكاء، ولا مستويات التعليم المتقدمة.

الكل لديه الفراغ الكافي لمثل هذه الأنشطة بالطبع، فمعظم الناس في المدن العربية كما هو شأن المدن الغربية يشغلون بأعمالهم بمعدل 45 ساعة أسبوعيا _ من أصل 168 ساعة _ ويبقى الباقي حرا للإنسان ليتحرك فيه كما يرغب.

بالمقابل، نحتاج لكل الفوائد التي تمنحها الحيوية والديناميكية في المدن، فهذه الحيوية تجعل الإنسان بناءا منتجا مفكرا، وهذا طبعا خير من الفراغ، الذي عادة يشجع الشباب على العادات التدميرية، سواء كان التدمير ذاتيا _ من خلال العادات الشخصية السلبية كالمخدرات _ أو كان تدميرا اجتماعيا يبدأ من التسكع ومضايقة الناس وينتهي بالتطرف والتخريب.

حيوية المدن تستنفد طاقات سكانها بما يعود على تلك المدن بالخير، وبما يسمح بنشوء أفكار جديدة وإيجابية، وهي في النهاية ذات أثر اقتصادي ضخم على المدن، فهذه الأنشطة تزيد من الإنتاجية الاقتصادية للمدن، ويزيد من جاذبيتها للاستثمار، ويرفع من مستوى المناخ الترفيهي في المدينة.

فيما يلي وصفة أقترحها لعلها تساعد في تحويل المدن العربية إلى مدن حيوية:

  • استفد من التركيبة الاجتماعية الخاصة.

نحن شعوب “اجتماعية” ولا مفر لنا من ذلك، وإذا كنت أحيانا أشعر بأن حياتنا الاجتماعية المكثفة هي هرب من جمود المدن العربية، إلا أنني أدعو لأن يكون للبعد الاجتماعي دوره في إحياء المدن العربية.

لماذا لا تتحول لقاءاتنا الاجتماعية اليومية إلى لقاءات كبيرة يخلط فيها البعد الاجتماعي بالأنشطة التي نسعى أن ننمارسها سواء كانت أنشطة فنية أو ثقافية أو رياضية أو غيره؟.

القاهرة لديها تجارب لطيفة في هذا المجال من خلال بعض النوادي التي يجتمع فيها الأهل والأصدقاء والجيران ويمارسون مختلف الأنشطة.

  • كثف الدافع المعنوي وألغ الدافع المادي.

لا توجد هناك ميزانية تكفي لإحياء مدينة، الأنشطة يجب أن تكون مجانية ومبنية على الدافع الذاتي، بل إن تمويل الأنشطة يجب أن يأتي من المشاركين فيها ومن الدخل الذي يمكن أن تحققه هذه الأنشطة.

أنا لست ضد الدعم الحكومي والخيري للأنشطة، ولكن الدافع المعنوي لا يعني التشجيع فقط. سيكون هناك دافع معنوي عندما يفهم الجميع أن الشباب الذين يشاركون في الأنشطة ويقودونها يستحقون التقدير لأنهم خير من الكسالى.

في أمريكا، قد تساعدك رسالة تزكية من أحد منظمات الأنشطة غير الربحية في الحصول على عمل بشكل أفضل من رسالة خبرة طويلة، وهذا طبعا يجبر الجميع أن يساهموا في صناعة حيوية المدينة.

  • التنوع .. التنوع .. التنوع.

الناس ذوي مذاهب شتى وأفكار متباينة ورغبات متعددة، والمدينة الحيوية تحترم تعددية سكانها فتمنح لكل شخص ما يحتاج وما يريد.

هذا يمكن أن ينجح فقط إذا تنوعت الأنشطة.

تخيل لو أنه كانت لدينا مراكز صيفية متنوعة من خلال التخصص بدلا من نسخ متشابهة، فيكون لدينا مركز صيفي ثقافي، وآخر للرياضات الفردية، وثالث للتطوير الذاتي، ورابع لتطوير المهارات اليدوية، ومراكز مسائية وأخرى صباحية، بعضها في الهواء الطلق، وأخرى في أماكن مغلقة، وهكذا.

  • الترفيه دائما.

الكثير من الناس يرى أن الترفيه مخالف للجدية، وهذه مدرسة قديمة سادت عالميا مطلع القرن العشرين، ثم تغيرت الدنيا وصار الناس في كثير من دول العالم يمزجون الجدية بالترفيه في كل أمر، حتى يجعلوا كل شيء جزءا من المرح اليومي.

في الحقيقة تستغرب حين يطلق على بعض الأنشطة الثقافية كلمة Fun، وهي كلمة تدل على المرح ولا علاقة لها بالجدية.

أحيانا تكفي ابتسامة، وعفوية في اللباس وطريقة الجلوس، والمعنويات المرتفعة والاسم غير الجاد في إضفاء المرح على المكان.

لا أؤيد طبعا الطريقة اللاتينية التي تمزج كل الأنشطة بالموسيقى والحركة، فقلوبنا معشر العرب لا تتحمل هذا المستوى من الترفيه.

امنح الناس حرية الاختيار، وحرية الحركة، وحرية التمويل، وحرية الوقت، وحرية المكان وستجدهم ينتفضون من سباتهم العميق ويتجهون حيثما يريدون، وتجد الحركة تزيد شيئا فشيئا في المدينة حتى تتحول لمدينة حيوية يسري فيها الهواء الطلق ليصطدم كل مرة بجموع من الناس تفعل شيئا ترغب فيه.

نحن نحتاج لمدننا العربية أن تصبح كذلك، لأن جمودها يجمد الدماء في عروقنا ويجعلنا راغبون في الانفجار حتى لو كان هذا على حساب أرواحنا ونهضتنا وابتسامتنا.

* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية