كان المشهد في كلية اليمامة الأسبوع الماضي صادما للكثيرين، فبينما كانت جلسات الحوار الوطني تعقد في الجوف، كان هناك أشخاص في الرياض يعلنون بشكل صارم رفضهم للحوار وأنهم هم على حق وكل من عداهم على باطل، وأن من يرونه باطلا يجب أن يصمت إلى الأبد.
واحد من الأسباب التي ساهمت في إيجاد هذا الوضع غير العادي هو انتشار ثقافة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في أوساط هؤلاء الشباب، وهذه الثقافة بوضعها الحالي تعاني من أربع أخطاء جوهرية تساهم في تحويلها من أمر شرعي واجب وهام إلى ظاهرة لها أبعاد سلبية ومرفوضة اجتماعيا.
- الملاحظة الأولى: أن تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم أحيانا حسب القواعد الشرعية.
فالقواعد الشرعية أن ذلك يجب أن يتم في الأمور المتفق عليها وليس فيها خلاف، وهذا يعني أن القضايا الفكرية الجدلية كلها لا تدخل في هذا المجال، وهذا يشمل أيضا قضايا مثل كشف الوجه والتمثيل وغيره.
القاعدة الشرعية الأخرى التي تغفل أيضا هي أن الأمر بالمنكر يجب ألا يجر لمنكر أعظم منه، ولا أظن أن أحدا يختلف معي حين أقول بأن التفرقة الاجتماعية وخلق ردود أفعال سلبية ضد الإسلام والمتدينين هي منكر أكبر من ذكر رأي يراه هؤلاء الأشخاص مخالفا للإسلام.
القاعدة الشرعية الثالثة هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون لما يجهر به الناس ولا يجوز البحث في أحوال الناس الداخلية للبحث عن المنكر.
وقصة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، شهيرة حين حاول أن ينكر على شخص يشرب الخمر في بيته، وامتناعه عن فعل ذلك لما زجره هذا الرجل، كما أنه لم يطبق الحد على الرجل، وصار هذا عرفا إسلاميا، ولذا لا تجد في كتب التاريخ قصص عن دخول على الناس في بيوتهم لإنكار المنكر عليهم.
- الملاحظة الثانية: أن ثقافة “النهي عن المنكر” نزعت عن سياقها التاريخي، فتطبيق الصحابة والتابعين ومن تلاهم لهذا الأمر يفترض أن يكون مؤشرا لكيفية تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعاتنا.
تأمل كيف كان الشاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة، يتزين في موسم حج كل عام ثم يذهب للحج باحثا عن الجميلات من بنات المسلمين بمن فيهم بنات الصحابة ليطلق شعره الغزلي الذي كانت تتداوله العرب.
كان ابن أبي ربيعة، يفعل ذلك في زمن الخلفاء الراشدين ولم ينكر عليه أحد ذلك حسب كتب التاريخ إلا أزواج هؤلاء النساء وآبائهن الذين كانوا يغضبون من تداول العرب للغزل بنساءهم، ولكن هذا لم يتحول على أي حال إلى عنف ضد أبي ربيعة.
من جهة أخرى، تجد أن كثيرا من الكتب التي نشرت في ذلك الزمن لأئمة الفرق الخارجة عن أهل السنة والجماعة مثل المعتزلة والمعطلة وغيرهم يتداولها نساخو الكتب دون أن يكون هناك من ينكر عليه.
- الملاحظة الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، طالب بالتغيير، ولكنه لم يحدد أسلوبا للتغيير دون غيره، وثقافة النهي عن المنكر الموجودة في مجتمعنا تركز على التغيير السريع والمباشر وتهمل التغيير طويل المدى الذي يتم من خلال وضع أهداف واضحة وبرامج معلنة ومنظمة وموافق عليها من ولي الأمر لتطبيق تلك الأهداف.
هذا جعل الكثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على ردود الفعل السريعة والسلبية.
- الملاحظة الرابعة: أن مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقيت محصورة على فئة معينة من الناس ولم يتم توسيعها لتصبح أمرا وطنيا عاما.
في المفاهيم المدنية هناك مفهوم “المواطن الصالح” والذي يسعى من أجل مصلحة وطنه ويحاول منع الظواهر السلبية ويساعد السلطات الحكومية في تطبيق القانون.
هذا الامتداد لم يطبق لدينا، وتحول النهي عن المنكر لاختصاص لبعض فئات المجتمع يستخدمونه للضغط على الفئات الأخرى التي تختلف معهم في الرأي والفكر والتطبيق.
وربما كان التركيز على القضايا الجزئية والخلافية وتطبيق ذلك بشكل غير منطقي سبب للفشل العام في نشر ثقافة النهي عن المنكر داخل المجتمع السعودي فضلا عن نقله للمجتمعات الأخرى.
هذه الأخطاء الجوهرية يجب معالجتها حتى تتوقف مثل هذه الحوادث الغريبة، وحتى يمكن للنشاط الثقافي وللحوار أن يستمر، ومسؤولية معالجتها تقف على العلماء والدعاة وأئمة المساجد الذين يجب أن يبينوا الأحكام الشرعية للنهي عن المنكر وأبعاده التاريخية والحضارية، كما تقف على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لم يكن بعض أفرادها بعيدا عن الأخطاء التي ذكرت أعلاه، وهي تحتاج لنشر ثقافة جديدة تتوافق مع القواعد الشرعية التي نص عليها الفقهاء وعلماء أصول الفقه.
إنه أمر حزين أن نحتاج لننهي عن الأساليب الحالية للنهي عن المنكر!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية