في الأسبوع الماضي تحدثت عن أهمية أن تسود ثقافة الحوار المفتوح والنقاش بين الأطراف التي يكثر بينها الخلاف، ليس فقط بهدف تقريب وجهات النظر ونشر “المحبة” بين الجميع كما يفهم كثير من الناس هدف الحوار، بل أيضا لأنها الوسيلة الوحيدة التي يجب أن نبني على أساسها التغيير وإقناع الآخرين بوجهات نظرنا، ولأننا في حاجة لمعارك ثقافية عادلة تقوم على مقارعة الحجة بالحجة ولا تقوم على أساس الضغط على الآخرين وإجبارهم على تنفيذ ما نؤمن به.
لكنني لاحظت في تعليقات وردود أفعال معظم الذين يوافقونني الرأي الكثير من اليأس والإحباط.
هناك شعور واسع النطاق كما يبدو بأن وضعنا الحالي الذي يفتقد فيه الكثير من الناس للمنطق وضع صعب التغيير، ولا حل له، لأن هناك فئات كثيرة من الناس التي ترفض اللجوء للحوار للوصول لرأي أخير حول القضايا.
أنا لا أتفق مع هؤلاء في إحباطهم، فبالرغم من أن الحال غير مرضية على الإطلاق، وبالرغم من خطورة اللغة المستخدمة حاليا في الخصام بين الأطراف والتي تعتمد على محاولة وضع الخصم في الزاوية الحرجة بدلا من محاولة مناقشة فكرته وإثبات جوانب الخطأ فيها، بالرغم من كل ذلك فإن الحل في رأيي موجود.
هناك جهود نظرية وعملية ضخمة في مجال تعليم الحوار والنقاش، ورغم أن هذه الجهود بدأت أصلا في التراث العربي والفلسفة الإسلامية إلا أنها انتقلت للغرب بعد ذلك والذي أكمل المشوار، ولذلك تجد في المدارس الأمريكية على سبيل المثال مادة تبدأ منذ الصف الأول الابتدائي في بعض الولايات هي مادة المناظرة debate، وفي المرحلة المتوسطة والثانوية تبدأ مباريات المناظرة تتسع لتشمل مدارس الولاية، ويكون فيها بطولات ولها لجان تحكيم وجوائز هامة، والحصول على شهادات تقدير في هذا المجال له دور كبير في الحصول على قبول في جامعة محترمة، ولذا يحرص الكثير من الطلاب على المشاركة في هذه البطولات أملا بالفوز في إحداها.
في المرحلة الجامعية، يتسع نطاق هذه البطولات لتشمل الولايات الأمريكية كلها، وتتسابق الجامعات فيما بينها، وتحتفل الجامعة بانتصارها في بطولات المناظرة لو كتب لها ذلك.
تقوم معظم مباريات المناظرة عادة على أن يحدد للشخص موضوع المناظرة ووجهة النظر التي عليه أن يتبناها، ولذلك تجد أنه مطلوب من الطالب المتباري أحيانا أن يتبنى وجهة نظر مخالفة تماما لما يؤمن به ويحاجج خصمه بها ويحقق الفوز على أساسها، فمثلا في موضوع الإجهاض، وهو أحد أكثر الموضوعات شعبية للمناظرة في أمريكا، قد يؤمن الطالب بأن الإجهاض محرم وفيه هدر لنفس بشرية بريئة، ومع ذلك يتبنى في المباراة وجهة نظر أولئك الذين يرونها حقا فرديا واختيارا للمرأة لا يحق لأحد التدخل فيه، ويحاجج خصمه الذي يدافع عن تحريم الإجهاض ومنعه.
هذا معناه أن الطالب في مواد المناظرة يتعلم كيف يضع نفسه مكان الخصم، ويتعلم كيف يرى القضية من وجهة نظر أخرى مخالفة، ويتعلم أن الدفاع عن قضيته يكون بالحجة والمنطق فقط، ويتعلم كيف يخوض معركة ثقافية من أجل القضايا التي يؤمن بها، ويتعلم كيف يحترم الآخرين.
هناك أيضا مناهج مدونة قائمة على دراسات علمية لتدريب المدرسين على تعليم هذه المواد، وهناك دورات تدريب كثيرة لتعليم المدراء والموظفين على فن الإقناع، وبعض هذه الدورات شديدة التخصص، فهناك دورات خاصة للأطباء ليتعلموا كيف يقنعوا مرضاهم، ودورات لمسؤولي التسويق، وأخرى للسياسيين والدبلوماسيين، وهكذا.
لو آمنا بخطورة هذه القضية، وأهمية هذا النوع من التعليم وبدأنا في إقناع الأساتذة في المدارس وتدريبهم، لتحول هؤلاء المدرسون لجنود في سبيل قضية أراها من أهم القضايا في إصلاح حياتنا الثقافية في العالم العربي والتي عانت كثيرا من الذين يسعون دائما لفرض آرائهم على الآخرين بطريقة أو بأخرى، ولو تعلم الطلاب ما يتعلمه الطلبة الغربيون لصحونا من الركود الذي نعيشه في نقاش مختلف التحديات التي نواجهها على أساس الدليل والمعلومة والبرهان وليس على أساس محاكمة النيات والهجوم الظالم والكراهية والتحزب.
المدارس هي نقطة الانطلاق، والتدريب قد يساعد على حل مشكلة الكثيرين ممن فاتهم قطار التعليم، وسيكون يوما سعيدا ذلك اليوم الذي تبدأ فيه أول بطولة حوار بين مدارس المدن أو المناطق.
نحتاج فقط لإيمان عميق بأهمية المنطق والحوار، كما نحتاج لحكام حياديين حتى تنجح البطولة!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية