العرب لا يتذكرون، وإذا تذكروا لا.. !

من قسم منوعات
السبت 19 أغسطس 2006|

لكل أمة ذاكرة، تماما كما هو شأن الإنسان، ذاكرة الأمة قصيرة المدى تشمل السنوات التي شهدها جيل ما، والذاكرة متوسطة المدى هي الذاكرة التي شهدتها الأجيال الأخيرة خلال عقود من الزمن، والذاكرة طويلة المدى هي التي تمتد إلى عهود سحيقة في التاريخ.

منطقيا وما يحدث في كثير من الأمم، تكون ذاكرة الأمة مشغولة بالأحداث التي مر بها الجيل، أو الأجيال الأخيرة وأقل انشغالا بالتاريخ السحيق، إلا أن هذا الوضع مقلوب لدينا تماما فذاكرتنا طويلة المدى نشطة جدا، بينما الذاكرة قصيرة ومتوسطة المدى تكاد تكون معدومة!

بكلمات أخرى؛ نحن أمة لا تتذكر أحداثها الأخيرة، ولا توثق تاريخ الرجال، ويمكن لرجل أن يكون جلاد الأمة ثم يتحول إلى بطل بمجرد إلقاء خطاب عاطفي، ويمكن لحدث ما أن يتكرر مرات عديدة خلال عقود من الزمن، يتكرر بنفس التفاصيل والأسباب والنتائج، ولكن أحدا لا يعتبر ولا يتذكر !

إنه من الطبيعي أن نكون أمة مهتمة بتاريخنا الطويل، فهو التاريخ الذي يحمل الكثير من الفترات المضيئة، خاصة بعد أن “نقيناه” من كل ما قد يكدر صورته العظيمة في نفوسنا، ولأن هذا التاريخ يمثل بعدنا الديني والحضاري كعرب ومسلمين.

لكن الغريب فيما يحصل، أن ينسى المضطهد أيام اضطهاده وأسباب ضعفه وقصص هزيمته وينسى تاريخ الرجال الذين تسببوا في مآسيه، بينما يتذكر أمجاد آبائه وأجداده، وهذا بالضبط ما أراه حاصل لنا في أيامنا هذه..

لقد نسي الكثير من العرب ما فعله صدام حسين، بشعبه وشعب الكويت وبالمنطقة كلها عندما دخل حربه الأخيرة، وبسبب ضعف الذاكرة تجد قادة الحرب الأهلية اللبنانية الذين شاركوا في دمار لبنان لفترات طويلة ما زالوا قادة في الساحة السياسية، وتجد هناك من يقدس جمال عبدالناصر، متذكرا معاركه ومتناسيا كل المآسي التي جرها على مصر حين حولها لدولة فقيرة تعاني حتى يومنا هذا، وحين ملأ السجون بالمشانق وآلات التعذيب والحكومة بالفساد، وتجدنا نعيش الحكايات نفسها كل عشر سنوات دون أن يفكر أحد بأخذ الدروس، ولو تأملت أحداث الأسبوعين الأخيرين لتعجبت كيف نسي الناس التاريخ وانهكموا في تحليل لحظات يومية، وكأن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا يوما سببا في آلام آلاف الناس ومعاناتهم.

هناك العديد من الأسباب لكوننا ضعيفي الذاكرة، منها شكنا الدائم في كل مصادر المعلومات التي تنهال علينا حول الأحداث من حولنا، فهناك دائما مؤامرة وروايات وشائعات وقصص خفية تجعل البطل عميلا، والجلاد معذورا، والقاتل مدافعا عن نفسه، وما يقوله الإعلام هو دائما كاذب إذا لم يتوافق مع هوانا، ولهذا فذاكرتنا قصيرة المدى مشوشة لأنها تشبه مشاهدة عشرات الأحلام التي تمر بالإنسان ولا يعرف ما يصدق منها وما يترك.

نحن أيضا عاطفيون، والعاطفي بطبيعته ينفعل بالحدث وينسى خلفياته، ونحن نكره العقلانيين لأنهم يتفلسفون ويفكرون ويحللون، ونحن نرفضهم دائما لأنهم لا يشاركوننا فرحنا وغضبنا وعواطفنا.

لأننا عاطفيون، فنحن نشترط على قادتنا أن يكونوا مثلنا، يثوروا عندما نثور ويتظاهرون بالحزن عندما نتظاهر بالحزن، ويكرهون من نكره، بمعنى آخر، لتكون قائدا عربيا محبوبا فعليك أن تنقاد لعاطفة الجموع، وصدقني سينظر الناس لدموعك فقط حتى لو كانت يديك تقتل إنسانا كل يوم!

إن علاج ضعف الذاكرة يبدأ بالتدوين، حتى نجد المعلومة حين نحتاجها، وللأسف فلم تتفتق عبقريات أساتذة التاريخ في كل أقسام الجامعات العربية عن منهجية متناسبة مع عصرنا هذا لتدوين التاريخ وتوثيقه بعيدا عن العاطفة والشائعة والتحيز الذي تجده في معظم الرسائل العلمية العربية المتخصصة _ هذا طبعا إن وجدتها لأن معظمها يتحدث عن عهد المماليك والدولة الأموية والحروب الصليبية والقليل جدا يدون تاريخنا الحديث _ وحتى عندما يوجد مدون التاريخ الموضوعي فإن الناس لا يصدقون ذلك، ويقرؤون الصفحة الأخيرة من الكتاب ليعرفوا نتائج الكاتب ويصنفوه مع أو ضد الشخصية التي أرخ لها، وبالتالي يصنفوه في اتجاه من اتجاهاتهم العاطفية اللاعقلانية.

لو جاء مؤرخ “فهمان” في الأسبوع الماضي ونشر أي معلومة ليست في صالح تقديس حسن نصر الله فهو مع الإسرائيليين، ولو نشر أي شخص معلومة تصب في صالح نصرالله، فهو مع “حزب الله”، ولو نشر أحدهم معلومات سلبية وإيجابية فهو غالبا يدس السم في الدسم في اتجاه معين.

كل ما أعلاه هو جلد للذات، ولأكون موضوعيا فهو جلد لذات الجموع، بينما هناك استثناءات كثيرة مضيئة، ولكن ما حصل في الأسابيع الأخيرة يشعرك بأننا بحاجة لصعقات كهربائية توقظ الناس من غيبوبتهم أو من حالة الصرع التي يعيشونها، أيا تختار.

أطالب بعقلاء يدونون التاريخ، وأطالب وسائل الإعلام بأن تحضر التاريخ أمام الجموع كلما ثاروا، وأطالب العرب بأن يغيروا أنفسهم وأن يقرؤوا، وإذا قرؤوا أن يفهموا، وأطالبهم بتمارين لتقوية الذاكرة، وتقوية التفكير.

إذا لم تكن سعيدا بحال العرب، فإياك أن تنسى من كان السبب!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية